
أحمد عبد الحسين
هذا شعر هو محض تأمل بعينَيْ الأسى، لوحة كابية لعالمٍ لم يترك لأحد فسحةً لمديحه، نعذر الشاعر أنه لم يرَ في عالمه ما يستحقّ الاحتفاء به، حتى ولا ذاته التي "ليس من أجلها ينهض كلّ صباح، ويجول الأرصفة ذاتها، ويرصف أياماً لينساها"، وكيف يمكن للذات أن تحتفي بنفسها وشؤونها حين الأشياء، كلّ الأشياء، ليست له: "ليستْ لي هذه المكتنزة بالمسرّة.......، ليست لي هذه الضحكة خلف الباب..".
ليس الشعر شأناً لغوياً محضاً، هذا مؤكد، مرّ زمانٌ على الشعر العراقيّ كان الشعر فيه بهارج وزخارف وانتشاء حدّ الذروة أمام صورة الذات في المرآة، لكن الحفلة انتهتْ بلحظة الحقيقة: ان كلّ فرح بالأنا فرح كذوب مادام العالم كما نرى أطلالاً وأنقاضاً، فليست الذات سوى رحلتها في الأشياء، ومرورها في المسارب اليومية التي تنشئ العالم من حولنا، وما دامت زاويتك التي تقطنها في هذا العالم مظلمة فلن يكون لذاتك نور.
مقدّر على شاعرٍ يسكن هذا التوتّر بين أنا تطلب على الدوام تبجيلاً ذاتياً من لدن شاعرها، وعالمٍ تتناقص فيه باضطراد الرهانات الدالّة على استحقاقه أن يكون عالماً، مقدّر عليه أن يكون "ملاكاً يصارع جحيمه الخاصّة، مثقلاً بذنوب غفلته".
الآخرون هم الجحيم؟ قديمة ولا تنفع لتوصيف ما نحن فيه، الجحيم الحقيقيّ يكمن في ان الآخرين هم الذات، أصبحوا فينا، صاروا "نحن" وها هم يزاحمون سلطان الشاعر على ذاته: " كلّ ليلة، يعوون في صدري كعاصفةٍ نسيتْ أن تهدأ". وليس صدفة أن عنوان أبرز قصائد الشاعر "مثقل بالغائبين".
الشعر المتطلّع إلى خارج تخوم الأنا هو أقدر على قول أنا الشاعر، هذه من مفارقات الشعر، فما من شاعر فارق بداياته إلا وأيقن ان الطريق إلى أناه يمرّ عبر الآخرين، كما الجنة تمرّ عبر جهنمات كثيرة، لكن دروب العالم التي نسلكها ستسلب منا هناءاتنا القديمة، أوهامنا عن ذواتنا، ولحظات الذكرى التي هي لحظات الفرح الوحيدة المتاحة:
الصبيةُ الذين افترشوا طفولتي
أخذوا كلّ مهارات الفرح في قلبي
أٌقفلوه
وتناهبوا المفتاح.
كنت أكتب عن علي محمود خضير مقالاً هو فصل من كتابٍ، فوجدتٌ نفسي أمام ديوانه "الحالم يستيقظ" الصادر عن دار "الغاوون"، غير قادر على تأجيل هذه الرغبة في الاحتفاء به سريعاً في عمودٍ عجول. لعلها الرغبة التي تؤاتينا في إظهار محبتنا، أو لعلها المعادل الكتابي للتصفيق أو لإبداء الإعجاب. أو كلمة من فرد في قبيلة ستنقرض هي ولغتها وعاداتها وتقاليدها يوجهها إلى أخيه: انني أفهم لغتك، فلعلّ في ذلك عزاء.
جريدة الصباح العراقية
24/04/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق