الأربعاء، يناير 04، 2012

وسواس الحيرة واللا معنى

جريدة الصباح

سلمان خضر


خطوة تستحق الثناء ما قام به مؤخراً بيت الشعر العراقي في فعاليته السادسة بتقديم ابرز التجارب الشعرية ما بعد نيسان العام 2003 مخصصاً لهم عدداً من الدراسات النقدية إضافة إلى قراءات شعرية للمحتفى بهم

كذلك خصص الإخوة في القسم الثقافي لجريدة الصباح ملحق ( أدب وثقافة) العدد ( 1808 ) إلى الفعالية المذكورة ليمنح فرصة لمن فاته الحضور والاطلاع المتأني ان يقرأ ويتعرف على جزء بسيط من تجارب الشعراء والشاعرات الجدد.
جيل جديد يحلم بوعي، مؤمن ومتواضع يعيد لنا التفاؤل ان الشعر العراقي بنموذجه المشرق موجود ويزدهر ، ليس كما يحاول البعض ان يبثوا روح اليأس والركون إلى التسليم بموت الفنون بما فيها الشعر.
الملحق الثقافي الصادر بتاريخ 28 تشرين الأول 2009 تضمن نماذج من نصوص الشعراء والشاعرات المشاركين في الاصبوحة، لفت نظري بينها نص شعري ذو طابع خاص ولغة متميزة ، قصيدة ( وسواس ) للشاعر الشاب علي محمود خضير التي وددت ان أتناولها عبر هذه المساحة الصغيرة.
من السهل لقارئ الشعر المتابع ان يمسك في هذا القصيدة جهداً واضحاً ومؤثراً في صياغة بنية وتخطيط دقيق للنص الشعري الحديث، النص متماسك متسلسل يجر بعضه بعضا منذ السطر الأول وحتى السطر الأخير ، رسم خيال الشاعر فيه صوراً لرعب وسواسه وتجول بخياله في أرجاء كابوسه بنشاط مخيلة صورية مدهشة، سنجد ان الشعر قد تخلى عن أغراضه المستهلكة ليتحول إلى أداة معرفة وفكر وتساؤل ومساءلة ، مساءلة عن مواطن الإخفاق والنجاح عن الهزيمة والذكرى والطفولة الجاهلة.
القصيدة تتراوح بين استخدام السطر الطويل الذي طغى على أكثر أجزاء النص وبين استخدام الأسطر المقطعة، مستخدماُ لغة سلسة أخاذة لا زوائد ترهقها ولا زخرف يشوشها، نجد فيها أيضاً غياب الغنائية والخطابية وتحولا نحو البوح الهادئ خفيف النبرة وكأنه يصدر عن نفس قلقة منهمكة بمعالجة التحولات السريعة والمتناقضة أحيانا للذات ومحاوراتها بتأمل مسترسل. يبدأ الشاعر النص بنتيجة مبدئية لثيمة الوسواس المريرة:

لا معنى لهذا الوسواسِ غير احتراق اليابس والأخضر من شجرة العمر.
كما تقبل على بيوت متشابهه فتتداخل عليك أبوابها وروائح ساكنيها

اللا جدوى واللا معنى أذن نتيجة محزنة ومخيبة تواجهها الذات الشاعرة بشيء من العبثية يظهر في أماكن لاحقة من النص، ليشرع بعدها بسرد حالات وصفية نفسية وذهنية تتضمن حالة القلق والاضطراب مستفسراً عن المغزى من ورائها، المغزى الذي يحير الإنسان ويعذبه وهو يجد نفسه تحت تأثير قوة خفية تسلبه صفو حياته وراحتها ، سؤال فوضوي لكنه جاد ومربك:


وأي معنى لاختلاسك لحظةَ استرخاء بين ساعات طوال وأنتَ تصّك على أسنانك ورأسك.
أي معنى من انتظار موت قادم لا محالةَ.
من اكتشـاف أن يدك لا تعينك على كتابة سطر واحد.
أو، من اشتياق لا يفضي إلا لوخزة باردة أيسـر صدرك.


ينتقل بعدها الشاعر إلى منطقة خصبة يعزى لها تشكل الرعب والوسواس ، الطفولة، المنطقة التي ينشأ فيها نسيج الإنسان وتكوينه الفكري والجسدي ، ليناقش الشاعر مع ذاته التي يُسائلها ويختصم معها ويجادلها على حيثيات تلك المنطقة البعيدة المجهولة في حوار داخلي تنقسم فيه الأنا وتتداخل ، ينتقد فيها حالة الرضوخ والاستسلام لمكامن الرعب وبواعثه ويمتعض من تمظهراته التي تطغى على سلوكيات الإنسان وتفسد عليه راحة العيش، الخوف والرعب والوسواس الذي صار سمة بارزة في حياة الإنسان الحديث المحاط بمخاطر لا تنتهي تهدده ، حروب، أوبئة، قلق اقتصادي ...الخ ، الخوف بمعناه المطلق والذي يعالجه النص محاولاً المضي الى ابعد نقطة ، النص يقول ولا يقول ، يوحي ويتراجع ، يجزم ويشكك، وهذا كلّه من التقنيات المميزة في النص الحديث التي استثمرها الشاعر بذكاء، في مقطع مؤثر يخاطب ذاته الموسوسة:


وأنت ، عبد الغد
نسّاء الأمس

كافر اللحظة


ثم يتواصل السرد ويتعالى بقطعة من أجمل ما في القصيدة ، مستعيداُ مرة ثانية أغوار الطفولة ، مستخدما تقنية الصور المركبة ذات السطر الطويل، سطر متماسك لا تكاد تجد فيه كلمة تشذ أو تنقص ، يتخذ فيها الكابوس صوره مرعبة ،ساخرة من الذات الضعيفة ، تجتمع في القطعة مشاعر الخيبة العميقة بشيء من الرثاء:

يا من تستدعي أشباحك واحداً بعد واحد لتفرش بِهم لـيلـك. وتجر غـدك بوسواس امسك. قديمةٌ ندوبك وساخنة.
فكابوسكَ الطفل مازال يشربك على عجالة منذ عشرينَ أو اقل، يشربكَ ثم يعيدك إلى الكأس نفسه وهو يَضحك.
وخيبتك عين أعمى صدق بِوعدِ ظلمة ظالمة أسرّته بفرارها فأمن ، ليفتحَ عينه على ظلمة.
كخيبة طفل يلهو بطينٍ لن يصير تمثالاً مهما دعكه وتـمنى.
قديمة ندوبك وساخنةٌ.


يختتم بعدها الشاعر نصه بتدريج تنازلي محسوب وفق فيه إلى حد بعيد ، ليصل لنفس النتيجة التي ابتدأ فيها، اللا معنى الذي سيظل يصفع الإنسان كلما واجه أمرا عصياً على عقله وكيانه، الرؤى والأفكار التي تنمو وتشتبك في المشهد المحكي تؤجج أسئلة عدة ملتبسة تتعقد لتنفك فيما بعد وتنتهي إلى لا شيء! ربما من اشارات النص أيضا فكرة المعنى واللا معنى التي تبدأ بأبسط الأشياء من حولنا ولا تنتهي بالأسئلة العميقة المزعزعة والمرعبة عن معنى الحياة والوجود.
نص يعبر عن تجربة طيبة وثقافة عصرية ووعي يجعلنا نؤشر لهذا الشاعر الشاب إعجابا وأملاً معقوداً بصياغة مشروعه وفتح مناطق جديدة للقصيدة العراقية الحديثة، قصيدة المعنى والمعرفة والأسئلة ، القصيدة التي تتوغل داخل أعماقنا لتتركنا مذهولين وترحل فجأة.

رابط المقال

http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=93429

ليست هناك تعليقات: