التباس الهوية الشعرية وضبابيتها لا يمكن فصله عن ضبابيه المرحلة العراقية ذاتها، مجهوليتها الشاسعة واضطراب لحظاتها المتلاحقة. عمل الشاعر اليوم كما يُخيّل لي يشابه من يعمل في حقل الألغام، تلك المهمة الدقيقة التي مهما اجتهد الخبير ودقق في تفاصيلها يبقى عمله مشدوداً لرعب انفجار مفاجئ يحيل جهده إلى ركام في لحظة واحدة. ولا اقصد هنا حياة الشاعر بل المتغيرات الانفعالية التي تصب لاحقاً في تكوين القصيدة لديه. بمعنى ان تلاحق الأحداث ولا عقلانيتها يفسد أي بناء افتراضي يعده الشاعر. المتغيرات السياسية والاجتماعية حدث وركن من مجموعة أحداث وأركان، غير ان القصيدة تحتاج إلى منابع/عوامل اكبر وأعمق ( رؤى، تأريخ ، ذكريات، موروث، عوامل نفسية....الخ) تتداخل وتتكامل فيما بينها لإنتاج النص.
اعتقد إن شعراء ما بعد 2003 استفادوا من سقطات الشعرية العراقية على مدى التأريخ السابق، حين كان الشعر أداة بيد الفكر المغلق على نفسه، الفكر الشمولي والأيدلوجي. شعر هذه المرحلة -في بعض نماذجه القليلة المضيئة- يتجه إلى الكتابة من اجل الشعر نفسه، غاية بحد ذاتها، ساعياً إلى استحكام صوته وتأصيل ( شخصيته) بتجريب فنون كتابية مختلفة وتداولها والخلط بينها. هناك مزيج متداخل من المعرفة والتأمل والحدث اليومي العادي والفلسفة والموروث. القصيدة تنزع ثوب الخطاب المباشر السمج إلى مساحات الأسئلة الملتبسة، هذه الأسئلة ليست اغتراباً عن الواقع بقدر ما هي كرسي محاكمة لمكونات النفس البشرية ومسائلتها على ما آل إليه الواقع من دمار، هو نموذج غير معتاد على شعريتنا التي اعتادت على قلب الهزائم الكبيرة انجازات وهمية خالدة.
الجيل يحتاج إلى فتح مصاريع التجريب الواعي الذي يجب أن يتلائم مع لحظة الانفجار الكبرى (2003). يحتاج إلى بعض الجرأة والمغامرة والكثير من الجهد للفكاك من السقوط في مطب حداثة مفتعلة أو استنساخ تجارب ( داخلية أو إقليمية) وان يجتاز المأساة بوقعها الآني إخلاصاً الى ان تكون كلمة الشعر صافية بعيدة عن انفعال اللحظة الشاردة.
لا يمكن لهوية الشعر ان تكون كاملة ونهائية. الشعر رحلة مفتوحة إلى المجهول، إلى الكشف الدائم عن مناطق كتابية ممكنة. إضافة لذلك، ان تجارب هذا الجيل لم تكتمل وتتخذ مشاريعها النهائية بعد، لذا من الصعب تحديد ملامح هوية القصيدة الآن. نحتاج إلى الابتعاد بمسافة زمنية كافية ستتكفل بالإجابة. يبقى الموضوع برمته بحاجة لدراسة أعمق. لكني مطمئن ان مدرسة شعرية عراقية تتكون وتحتاج إلى جهد نقدي يواكبها.
علي محمود خضيّر
كتب جواباً على تحقيق صحفي اجراه الكاتب علي عبد السادة في جريدة المدى بخصوص قصيدة ما بعد 2003.
لتجميل العدد:
http://www.almadapaper.net/sub/01-1706/17.pdf
الجمعة، ديسمبر 30، 2011
قصيدة ما بعد ٢٠٠٣
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق