الخميس، يناير 05، 2012

المهرجان الثاني للشعراء الشباب





متابعة: امجد صلاح – طريق الشعب

اللقطات بعدسة: احمد محمود


اقامت جمعية الثقافة للجميع المهرجان الثاني للشعراء الشباب للفترة من 14-15 من تموز الجاري بتوقيع الشاعر محمد علي الخفاجي.

وافتتحت فعاليات المهرجان على قاعة منتدى بغداد الثقافي في حديقة الامة متضمنة كلمة لرئيس الجمعية د.عبد جاسم الساعدي وكلمة للجنة تنظيم المهرجان، لتبدأ بعد ذلك جلسة القراءات الشعرية الاولى حيث قرأ فيها الشعراء كل من: مرتضى الحمامي، علي محمود خضير، ميثم الحربي، علي وجيه، نادية الكاتب، سمارة غازي، محمد احمد فارس، حيدر العتابي، علي الهاشمي، حبيب النورس، هلال كوتا، زيدون الرائي وغيرهم.

اما الجلسة المسائية فقد اقيمت على حدائق ابي نؤاس قرب نصب شهريار وقرأ فيها الشعراء: صفاء خلف، حسام السرّاي، حسين الحربي، حسين جنكير، رافد الشبلي، قاسم الشمري، مالك عبدون وآخرين. واختتمت الجلسة بقراءة نقدية عن القصائد التي قرئت في المهرجان في يومه الاول قدمها الناقد د.احمد ناهم.

الشاعر زاهر موسى

واستمرت فعاليات المهرجان في اليوم الثاني بجلسة قراءات شعرية صباحية شارك فيها الشعراء: شنو عارف الداودي، علي حمزة الربيعي، خالد الحسن، حسن فرج الله، سلام مكي، نجلاء الموسوي، مصطفى عبد الرحمن، خالد جمال الموسوي، علاء العسكري، زين العابدين الطائي، علي عبد الزهرة، اسامة القيسي ومروان الاسدي. واختتمت الجلسة بدراسة نقدية قدمها د.احمد مهدي.

اما الجلسة الختامية فقد تضمنت قراءة نقدية لخلاصة المهرجان الشعري قدمها الناقد بشير حاجم. كما فتح باب المداخلات امام الشعراء المشاركين ليبدوا آرائهم وانطباعاتهم عن تجربة المهرجان والقصائد التي قرئت فيه ومستوى الدراسات النقدية المقدمة.


وتخللت فقرات المهرجان فعاليات موسيقية وغنائية للفنان طلال علي، كما تضمن المهرجان افتتاح معرض فني للجمعية احتوى على عدد من اللوحات التشكيلية لعدد من الفنانين العراقيين.

وتضمن المهرجان ايضاً مسابقة للقصائد المشاركة تم الاعلان عن نتائجها في الجلسة الختامية، ففي مجال قصيدة النثر فاز الشاعر علي محمود خضير بالجائزة الاولى تلاه الشاعر سلام مكي بفوزه بالجائزة الثانية، في حين فاز الشاعر علي وجيه بالجائزة الثالثة.

اما في مجال القصيدة الموزونة فقد فاز الشاعر خالد الحسن بالجائزة الاولى، بينما كانت الجائزة الثانية من نصيب الشاعر علي الهاشمي، وحصل الشاعر قاسم الشمري على الجائزة الثالثة.

وقال عضو اللجنة التحضيرية للمهرجان الناقد بشير حاجم ان المهرجان "يهدف الى اتاحة الفرصة للشعراء الشباب وتسليط الضوء على منجزهم الابداعي"، واشار الى ان "معظم الشعراء المشاركين من مواليد الحقبة الثمانينية اضافة الى شعراء من مواليد الحقبة التسعينية وشعراء من مواليد الحقبة السبعينية"، لافتاً الى ان "ذلك التنوع العمري يهدف الى خلق تلاقح بين تجارب شعراء ينتمون الى اجيال تتباين نوعاً ما في انعكاساتها الثقافية والاجتماعية على الواقع الادبي في العراق". اما عن مسابقة المهرجان فقد اوضح حاجم "ان اسماء لجنة التحكيم لم تكن معروفة لدى احد، وقد قدمت القصائد دون اسماء للجنة، وبذلك تمكنا من الحرص على حيادية الجائزة، واستطيع القول ان النتائج كانت مقاربة لما ورد في الدراسات النقدية التي قرئت اثناء المهرجان".

الشاعر علي وجيه



خيار خاسر

القصيدة الفائزة بجائزة الشعر الأولى عن قصيدة النثر في مهرجان الشعراء الشباب الثاني (بغداد-2011)



حدّثْتُكَ مرّة:

كلُّ ليلةٍ تَصْلَحُ أنْ تكونَ الأخيرةَ وكلُّ نهارٍ يحملُ بقلبه بذرةَ العدم

أحسبُ أنَّ في رأسي يتجادلُ مَلَكانِ، لا يملاّنِ حِسابَ المرّاتِ التي أدرتُ ظهري فيها لرسائلِ الليلِ والنهار

أحسبُ أَنهما تعبا كثيراً معي فتركاني هائماً في دروبٍ لا تستحي.

أحسبُ أنَّ نهاراتي القادمةَ أقلُّ حظاً.

وأني خَسِرتُ بياضي بانتظارِ سوادِك.

وأنَّ ذنوبي لا تغفرُها رَحمتُك.

كم حدّثْتُكَ بَعدَها عن أجنحتي التي لا تخَفِق؟

عن حقائقَ خذلَتْنا وإشاعاتٍ صادقة

عن ذكرياتٍ تُطلقُ وحُوشَها على أيامِنا العَارية.

أحَسبُ أَنكَ ملَلتَ حديثي لكنكَ تكتم:

مللتَ الحكايا أفرِشُها مخافةَ أن تُنسى

وأُطلقُ أنفاسَها لئلا تصدأ

مللتَ السُّبُلَ نبذلُ فيها أعمارَنا المحدَّبة، ولا تَعرِفُنا

مللتَ الصوائح

بلسانِها الألثغ وصوتِها الرديء

مللتَ، لكنكَ تكتم.

قلتُ:

من يعبأُ لأجنحةٍ مسحوقةٍ لا تخفِق؟

من يبادلُ حصىً تغرقُ بطرقاتٍ ملؤُها نشوةٌ مبتورةٌ

من يعاندُ كلَّ هذه الجماجمِ بأسنانٍ أبديةٍ تضحك

من يضاربُ بأقدارِنا المصقولةِ بعنايةٍ فائقة

من ينادمُ الطمأنينة، يستدرجُها،

متجرعاً وخزَ فظاظتِها ودناءَتِه؟

من يعاقبُ إحبَاطَنا بشواطئَ لا تْمُرض؟

حدّثْتُكَ، ذاتَ غَوْر:

لا ملاذ لمن رأى الشمسَ تخفقُ مشنوقةً بحبلِ العاصفة

لا ملاذ لمن أرجأ خَلاَصَهُ برميةِ زِهر

لا ملاذ لمن بدَّدَ بأسَهُ في بهتانِ خلوده

لا ملاذ لي وأنا أُعدِّد ملاذاتِهمُ الخاسرة!

قلت:

"إنْ كنتَ خائفاً من المنعطفِ القادم،

فأغمضْ عينيك

وأقبلْ عليه، دونَ اكتراث

هكذا ستغيضُ الريحَ بسخريةٍ بسيطة

وقليلٍ من الشجاعةِ الممكنة".

وقلت أيضاً:

كم ثعباناً في قميصِكَ أيها القدر؟

كم سكيناً خلفَ ظهرك أيها الغد؟

كم قبراً مخبوءاً فيكَ أيها الميت؟

أقوالٌ كثيرةٌ وأحاديث

أحاديثُ ما كانَ لها أن تنتهي

طالما عذبت المَلََكَيْنِ وهما يعدّان رسائل الليلِ والنهارِ التي أدرتُ لها ظهري

تعبِا،

وتركاني هائماً في دروبٍ لا تستحي

فهل سترحلُ أنت أيضاً؟

- ....


*القصيدة منشورة في موقع ايلاف:

http://www.elaph.com/Web/Culture/2011/1/627929.html

الأربعاء، يناير 04، 2012

الشاعر صلاح حسن يكتب عن "الحالم يستيقظ"


عن جريدة الحياة اللبنانية

الإثنين, 21 مارس 2011

http://ksa.daralhayat.com/ksaarticle/246508


صلاح حسن


لا احد يعرف بالضبط إلى أين تتجه مسيرة الشعرية العراقية الجديدة بعد كل هذه الفوضى التي تجتاح البلد منذ ما يقارب نصف قرن وحتى الآن . وإذا كان معلوماً إن الشعر العراقي لغاية تسعينات القرن المنصرم ظل يرفد الحياة الثقافية في هذا البلد بشعراء هم امتداد لأجيال سابقة ومهمة، فإنه الآن بسبب هذه الفوضى وبعض الإكراهات الأخرى لا يمكن تحديد مساره ولا معرفة شعرائه الجدد أو أهميتهم.

تظهر بين فترة وأخرى مجاميع شعرية لشعراء عراقيين شبان لا يستغرب المرء حين يجد فيها صدى شعراء الستينات أو السبعينات أو حتى الثمانينات، فالتأثير الذي تركته هذه الأجيال ما زال فاعلاً وقوياً ويستعاد على أيدي الشعراء الشبان العراقيين وغير العراقيين.

الشاعر علي محمود خضير الذي اصدر اول ديوان له تحت عنوان «الحالم يستيقظ» (دار الغاوون) هو واحد من هؤلاء الشعراء الذين يستعيدون في شعرهم مرحلة الستينات خصوصاً تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر وسامي مهدي ولكن بتقنية قصيدة النثر. هذان الشاعران المعروفان بكتابة القصيدة ذات اللغة الصافية والنبرة الخافتة مازالا يؤثران بالأجيال الجديدة بعد إن سادت في نهاية التسعينات تجارب ضعيفة لا يراد لها إن تحسب على الشعر العراقي.

يكتب علي محمود خضير في أجواء الستينات لكن موضوعاته حديثة وتجري يومياً في بلده وما زالت لكن أكثر ما يثيره كعراقي أولاً وكشاعر بالتالي هو ما فعله ويفعله الاحتلال في العراق والعراقيين، حيث يصف مشاهد المارينز وهم يقتحمون البيوت ويرعبون الصغار والكبار. ليس هذا فحسب، بل كيف يكبلونهم ويضربونهم ويأخذونهم إلى جهات مجهولة. في قصيدة « وهي تتحول إلى ملاك « وهي مهداة إلى فتاة عراقية قيدها جنود الاحتلال وربما قتلوها في ما بعد يقول خضير « هل اجعل أصابعي في أذني كي لا اسمع نحيبها ؟ / كيف مرت البارحة / بماذا فكر رجال المارينز قبل إن يقتحموا عليها الدار / ماذا سيقولون للرب / وماذا عن أنين أخت منتظرة وأب يتعثر الرعب على لسانه ويموت ؟/ ماذا عن سعال أم سقط النعاس من رأسها وظل واقفاً على الباب / ماذا عن أيديهم القوية وهي توثق يديك الطفلتين إلى الخلف ليفعلوا ما يفعلون ؟ / ماذا عن الصبية في الغرفة المجاورة / مكورين عند الزاوية «.

هذا المشهد الذي تكرر آلاف المرات وراح ضحيته آلاف العراقيين ووصلت فضيحة الاحتلال فيه إلى عنان السماء لا يختلف عن المشهد الذي رأيناه يتكرر في سجن أبي غريب. لكن المشكلة ليست هنا، بل المشكلة انه تحول في اللاوعي إلى مشكلة ثاوية سرعان ما تظهر بمجرد أن يكون هناك محرك يدعوها للظهور مرة أخرى وما أكثر هذه المحركات في حياة العراقيين؟

شعرية الرعب هذه يعبر عنها أحياناً بطرق مختلفة في الشعر العراقي المكتوب خلال السنوات الثماني الأخيرة ومرد ذلك يعود إلى الصور المرعبة التي تكتنز بها المخيلة العراقية وكثرتها وتكرارها حتى يبدو أحياناً بالنسبة للقارئ العراقي إن هذه الصور الشعرية مكررة لأنه رآها وعاشها بعينه مراراً وتكراراً ولكن ذلك ليس صحيحاً لأن الرؤية مختلفة في حين إن المشهد واحد.

لنعد إلى الجملة الأولى في المقطع الذي اخترناه من القصيدة والذي يقول « هل اجعل أصابعي في أذني « هذا السلوك لا يحدث فجأة وإنما يأتي بفعل تكرار حدث معين، أنت لا تضع أصابعك في أذنيك إلا حينما تشعر أن شيئاً ما سيحدث وسوف يزعجك أن تسمع ما سيحدث. إذن فالشاعر يعرف عن أي شيء يتحدث، عن المشاهد المرعبة التي رآها وعاشها ولا يتمنى تكرارها.

لا يتردد الشاعر في وصف أسلحة الاحتلال ورعبها والأسلحة المحلية الأخرى التي تبيد العراقيين ويكرر الفعل نفسه حين يضع جمرة في أذنيه هذه المرة لكي لا يسمع أو يرى ما يحدث. التكرار هنا له دلالة بالغة للإشارة إلى بشاعة ما يحدث دون مبالغة أو تهويل « ارسم على جدرانهم نخلة تحترق / وحتى اتقي هزء المجنزرات وصياح بنادق ملثمة / أصم أذني بجمرة سافرة «. الرعب هنا له دلالات مختلفة حيـن يتحول كل شيء إلى سلاح، هناك أولاً سلاح المحتل وسلاح محلي آخر، يتجه كله نحوك أنت الذي لا تملك سلاحاً أو بالأحرى المقصود كي تكون ضحية. هذه هي حال كل العراقيين الذين يقفون ضد العنف بكل أشكاله سواء جاء من الرجل الأميركي الغازي أو من الرجل العراقي بوصفه مقاوماً أو إرهابياً.

في ثيمة أخرى من قصائد هذه المجموعة أفكار لا تبتعد كثيراً عن موضوعة الرعب والخوف من الحاضر مؤطرة بالحلم لأن الحلم هو الشيء الوحيد في الحياة اليائسة، الذي يمكن الاتكاء عليه في العالم الأسود ... "الآخرون وحدهم من يجعلوننا نكبر / هم أيضاً بإمكانهم إن يدعونا صغاراً إلى الأبد « قصيدة أوزار المعنى".

هناك قصيدة أخرى تشي بهذا العالم لا تختلف كثيراً عن هذه الأفكار ولكنها تتجه إلى المستقبل في محاولة لخلق مصالحة مع الآخر ودعوته إلى علاقة جديدة تقر بالتغيير الحاصل في الحياة "لن تطأهم الفجيعة ولن تمسهم شمس الخسارات / لهم أسماؤنا ولنا منهم معنى إن نكون / آه كم أحبهم أطفالنا الذين سيأتون".



مشقّة أن تعرف


إلى زحل

البارحة

حينما خرجتُ من جسدي سالماً، رأيتُكِ تركضينَ برداءٍ أسودَ ودمعةٍ أخيرة. كانَ الليلُ وقتَها على أتمِّ سوادِهِ والريحُ خلفكِ تنبح.

البارحة عند اكتمال الأسى. على حافّة جرحٍ نبيلٍ يبدأ، كنتِ تُهدرين الليلَ دمعةً بعد دمعة. تبالغينَ سَترَ أَنّتِكِ حيث الأنينُ خاتمٌ في أصبعٍ مبتور.

وكنتُ بينَكِ/ حولَكِ/ أثناءَكِ أُسَندكِ بالسُّهاد:

ألمٌ كهذا جديرٌ بتلك الدموع.

ومن أجل أن تنسلَّ أشباحُ الوَحشةِ تركتُ الشبابيكَ مفتوحةً. وأَنَرْتُ المصابيح.

درّبتُ وجهي على ابتسامةٍ مقنعة، وصبرٍ واضحِ المعنى، يطولُ مع الليل.

الليلِ الأخير.

سألتكِ:

كيف أسلمتِ ظهرَكِ لسكّينٍ صدئة بيد الريح، ونزفتِ عمراً بمسرّاتِهِ زفرةً زفرة.

كيف أبدلتِ أقواسَكِ الملونة برمادِ الانتظار؟ وشطرتِ القلبَ كتفاحة

كيف زاملتِ الثواني الأخيرة

بأيِّ مبالاةٍ درأتِ مرارتها،

وأيَّ اختناقٍ كان؟

سألتكِ:

عن الزفراتِ الصغيرةِ المحرقة،

عن الدموعِ التي لا تُرى،

والمناديلِ التي تسحبينها سِرّاً وتخُفينها سراً بين طيّات ثوبِكِ المطعونِ بالوَحشة.

عن ابتساماتٍ زائفةً تبرقُ وتختفي، بانتظارِ فجرٍ يأتي بالفاجعةِ ناصعةً وخاطفة.

عن مشقّةِ أن تعرفي، ولا يعرفُ سواكِ أحد.

عن الجمرات، تقبضين عليها وملءُ عينيكِ التماعة.

...

سألتكِ كثيراً، لكنك لم تجيبي.

...

هكذا،

ساعةً بعد ساعة،

انفقتِ سوادَ الليلِ ساهمةً كغصنٍ ينسحقُ بمساميرَ واصدة.

...

...

عند الفجر،

كان جُرحي يُجيد أَلَمَه.

وغداً

لن يراكِ الناسُ إلا أختاً تَنَشرُ أختَها على طريقِ المطار.

لكني سأرى

شبحاً يجرُّ جناحَيهِ واهناً،

بينما قطراتُ دمٍ ترسمُ خيطاً يلمعُ بين أضلاعِهِ والتراب.

__________________________

القصيدة منشورة ايضاً في القدس العربي اللندنية:

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data\2011\10\10-17\17m14.htm

وسواس الحيرة واللا معنى

جريدة الصباح

سلمان خضر


خطوة تستحق الثناء ما قام به مؤخراً بيت الشعر العراقي في فعاليته السادسة بتقديم ابرز التجارب الشعرية ما بعد نيسان العام 2003 مخصصاً لهم عدداً من الدراسات النقدية إضافة إلى قراءات شعرية للمحتفى بهم

كذلك خصص الإخوة في القسم الثقافي لجريدة الصباح ملحق ( أدب وثقافة) العدد ( 1808 ) إلى الفعالية المذكورة ليمنح فرصة لمن فاته الحضور والاطلاع المتأني ان يقرأ ويتعرف على جزء بسيط من تجارب الشعراء والشاعرات الجدد.
جيل جديد يحلم بوعي، مؤمن ومتواضع يعيد لنا التفاؤل ان الشعر العراقي بنموذجه المشرق موجود ويزدهر ، ليس كما يحاول البعض ان يبثوا روح اليأس والركون إلى التسليم بموت الفنون بما فيها الشعر.
الملحق الثقافي الصادر بتاريخ 28 تشرين الأول 2009 تضمن نماذج من نصوص الشعراء والشاعرات المشاركين في الاصبوحة، لفت نظري بينها نص شعري ذو طابع خاص ولغة متميزة ، قصيدة ( وسواس ) للشاعر الشاب علي محمود خضير التي وددت ان أتناولها عبر هذه المساحة الصغيرة.
من السهل لقارئ الشعر المتابع ان يمسك في هذا القصيدة جهداً واضحاً ومؤثراً في صياغة بنية وتخطيط دقيق للنص الشعري الحديث، النص متماسك متسلسل يجر بعضه بعضا منذ السطر الأول وحتى السطر الأخير ، رسم خيال الشاعر فيه صوراً لرعب وسواسه وتجول بخياله في أرجاء كابوسه بنشاط مخيلة صورية مدهشة، سنجد ان الشعر قد تخلى عن أغراضه المستهلكة ليتحول إلى أداة معرفة وفكر وتساؤل ومساءلة ، مساءلة عن مواطن الإخفاق والنجاح عن الهزيمة والذكرى والطفولة الجاهلة.
القصيدة تتراوح بين استخدام السطر الطويل الذي طغى على أكثر أجزاء النص وبين استخدام الأسطر المقطعة، مستخدماُ لغة سلسة أخاذة لا زوائد ترهقها ولا زخرف يشوشها، نجد فيها أيضاً غياب الغنائية والخطابية وتحولا نحو البوح الهادئ خفيف النبرة وكأنه يصدر عن نفس قلقة منهمكة بمعالجة التحولات السريعة والمتناقضة أحيانا للذات ومحاوراتها بتأمل مسترسل. يبدأ الشاعر النص بنتيجة مبدئية لثيمة الوسواس المريرة:

لا معنى لهذا الوسواسِ غير احتراق اليابس والأخضر من شجرة العمر.
كما تقبل على بيوت متشابهه فتتداخل عليك أبوابها وروائح ساكنيها

اللا جدوى واللا معنى أذن نتيجة محزنة ومخيبة تواجهها الذات الشاعرة بشيء من العبثية يظهر في أماكن لاحقة من النص، ليشرع بعدها بسرد حالات وصفية نفسية وذهنية تتضمن حالة القلق والاضطراب مستفسراً عن المغزى من ورائها، المغزى الذي يحير الإنسان ويعذبه وهو يجد نفسه تحت تأثير قوة خفية تسلبه صفو حياته وراحتها ، سؤال فوضوي لكنه جاد ومربك:


وأي معنى لاختلاسك لحظةَ استرخاء بين ساعات طوال وأنتَ تصّك على أسنانك ورأسك.
أي معنى من انتظار موت قادم لا محالةَ.
من اكتشـاف أن يدك لا تعينك على كتابة سطر واحد.
أو، من اشتياق لا يفضي إلا لوخزة باردة أيسـر صدرك.


ينتقل بعدها الشاعر إلى منطقة خصبة يعزى لها تشكل الرعب والوسواس ، الطفولة، المنطقة التي ينشأ فيها نسيج الإنسان وتكوينه الفكري والجسدي ، ليناقش الشاعر مع ذاته التي يُسائلها ويختصم معها ويجادلها على حيثيات تلك المنطقة البعيدة المجهولة في حوار داخلي تنقسم فيه الأنا وتتداخل ، ينتقد فيها حالة الرضوخ والاستسلام لمكامن الرعب وبواعثه ويمتعض من تمظهراته التي تطغى على سلوكيات الإنسان وتفسد عليه راحة العيش، الخوف والرعب والوسواس الذي صار سمة بارزة في حياة الإنسان الحديث المحاط بمخاطر لا تنتهي تهدده ، حروب، أوبئة، قلق اقتصادي ...الخ ، الخوف بمعناه المطلق والذي يعالجه النص محاولاً المضي الى ابعد نقطة ، النص يقول ولا يقول ، يوحي ويتراجع ، يجزم ويشكك، وهذا كلّه من التقنيات المميزة في النص الحديث التي استثمرها الشاعر بذكاء، في مقطع مؤثر يخاطب ذاته الموسوسة:


وأنت ، عبد الغد
نسّاء الأمس

كافر اللحظة


ثم يتواصل السرد ويتعالى بقطعة من أجمل ما في القصيدة ، مستعيداُ مرة ثانية أغوار الطفولة ، مستخدما تقنية الصور المركبة ذات السطر الطويل، سطر متماسك لا تكاد تجد فيه كلمة تشذ أو تنقص ، يتخذ فيها الكابوس صوره مرعبة ،ساخرة من الذات الضعيفة ، تجتمع في القطعة مشاعر الخيبة العميقة بشيء من الرثاء:

يا من تستدعي أشباحك واحداً بعد واحد لتفرش بِهم لـيلـك. وتجر غـدك بوسواس امسك. قديمةٌ ندوبك وساخنة.
فكابوسكَ الطفل مازال يشربك على عجالة منذ عشرينَ أو اقل، يشربكَ ثم يعيدك إلى الكأس نفسه وهو يَضحك.
وخيبتك عين أعمى صدق بِوعدِ ظلمة ظالمة أسرّته بفرارها فأمن ، ليفتحَ عينه على ظلمة.
كخيبة طفل يلهو بطينٍ لن يصير تمثالاً مهما دعكه وتـمنى.
قديمة ندوبك وساخنةٌ.


يختتم بعدها الشاعر نصه بتدريج تنازلي محسوب وفق فيه إلى حد بعيد ، ليصل لنفس النتيجة التي ابتدأ فيها، اللا معنى الذي سيظل يصفع الإنسان كلما واجه أمرا عصياً على عقله وكيانه، الرؤى والأفكار التي تنمو وتشتبك في المشهد المحكي تؤجج أسئلة عدة ملتبسة تتعقد لتنفك فيما بعد وتنتهي إلى لا شيء! ربما من اشارات النص أيضا فكرة المعنى واللا معنى التي تبدأ بأبسط الأشياء من حولنا ولا تنتهي بالأسئلة العميقة المزعزعة والمرعبة عن معنى الحياة والوجود.
نص يعبر عن تجربة طيبة وثقافة عصرية ووعي يجعلنا نؤشر لهذا الشاعر الشاب إعجابا وأملاً معقوداً بصياغة مشروعه وفتح مناطق جديدة للقصيدة العراقية الحديثة، قصيدة المعنى والمعرفة والأسئلة ، القصيدة التي تتوغل داخل أعماقنا لتتركنا مذهولين وترحل فجأة.

رابط المقال

http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=93429

الثلاثاء، يناير 03، 2012

عن الحالم اذا أستيقظ..

غلاف كتاب الحالم يستيقظ

http://www.newsabah.com/templates/images/spacer.gif


حسام السّراي

جريدة الأخبار اللبنانية

http://www.newsabah.com/templates/images/spacer.gif

في مجموعته البكر الصادرة عن دار الغاوون "الحالم يستيقظ"، يضعنا الشاعر العراقيّ علي محمود خضيّر (تولد 1983) بمواجهة عالمه المزدحم بالإنهيارات وبشعوره الدائم بالقلق من قادمات الأيّام، كيف لا وهو يلخّص حال المتورط في وحشة الحياة: "كأنّ جماعة من الموتى أو الملائكة/ ينتظرونه كي يأخذوه معهم/ حيث لارجعة أبداً".

إنّنا أمام تجربة شعريّة عراقيّة تطرح نفسها بعد نيسان 2003، تجربة عاش صاحبها طفولته على وقع مدافع الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وشهد حصار التسعينات، ليكتب قصائده وهو يستجمع كلّ ما عاينه من خراب، باحثاً عن ملاذ يفتقده كلّ من "رأى الشمس تخفقُ مشنوقة ً بحبلِ العاصفة".

دخول الشاعر في حوار مع ذاته، يستلزم أسئلة تنبش في وجوده وحاضره ومستقبله:" كم ثعباناً في قميصك أيّها القدر؟/كم سكيناً خلف ظهرك أيّها الغد؟

في نصّه "وسواس" يقترب من سؤال أكثر ايلاماً وعمقاً، انّه تأرجح الإنسان بين حياة يحاصرها "احتراق الأخضر واليابس من العمر" وبين "موت بهيئة ديناصور لايطلع إلا من أغلفة الكتب"، ليأتي الاستفهام وهو يحمل روح الشاعر العدميّة :"أيُّ معنى من انتظار موتٍ قادم لامحالة؟"

واذا كان بورخس قد تحدّث ذات مرّة في كتابه "صنعة الشعر" عن الكيفية التي يرفع بها السياق ويسمو بجملة ما الى مرتبة الشعر، لذا فانّ الشاعر البصريّ وفي مقطع من "تهذيب الألم"، يهدينا سياق نصّه هذا إلى أن نقول انّه شعر يأخذنا الى مساحة متأمّله:"أفكـّر كيف أنّ أحزان الآخرين، دموعهم وخذلاناتهم المُرّة لاتُعير اكتراثاً لأحد. ترقد منسية ً ومُهملة ًكإطارٍ على الطريق السريع".

ويعود في نصّه "وهي تتحوّل الى ملاك" الى مساءلة اليوميّ الذي لم يكن عابراً، تبعات الوجود الأميركيّ في العراق وما حصل من انتهاكات لحقوق الإنسان، لتجد لها مكاناً في شعره، .. "بماذا فكـّر رجال المارينز قبل أن يقتحموا عليها الدار/ ماذا سيقولون للربّ؟

أنثى علي محمود خضيّر لايحاكيها بالمألوفيّة التي أدمن من خلالها العشّاق مضغ المفردات العابرة، "وقفتُ في منتصفِ الطريق/ على صدري/ بقايا زفيرِكِ قبل أن تـُعيرني للأسى/ وفي يدي لبقايا يدَيكِ، حنين...".

لكنّ أحلامه "المحاصرة" وان استيقظ منها هنا وهناك، يبدو إنّها ملازمة لكلّ تجربته الحياتية لتكون خلاصه الشخصيّ في النهاية...يكتب لمن يعنيها بحبّه وهيامه:" لك ِ أن تعيشي كما ترغبين.. ولي أن أحلم".

انّ استغراق الشاعر ومبالغته في الحلم، تأتي لتكون هروباً من الواقع أو محاولة لصدّ الخسارات التي يجلبها للإنسان، فهو يعبّر على هذا الواقع الذي يعاشر فيه أطفال الشوارع- من ضحايا العسكرة العراقيّة المستمرّة- ألعاباً من البنادق والمسدسات، فرحين بتقليدهم لما يشاهدونه في الفضاء العام، بينما يتجاوز خضيّر كلّ ذلك، واضعاً حلمه في صدر الصفحة التي تصارع هكذا مفارقات مؤلمة ، فهو نبوءته التي لايملك غيرها:"سيملؤون كراريسهم بالياسمين/ لامدافع ولافوّهاتِ بنادق".

ومثلما يسعى الشاعر في أكثر من مكان الى ايجاد حل للخلاص ممّا يجتاحه وبلاده:"حتّى أتّقي هُزء المزنجرات وصياح بنادق ملثّمة/أصمّ أذني بجمرةٍ سافرةٍ". فإنّه وفي نصّ "اذ تعكس الشمسُ أحمرَ شفاهك..."، يستعين باستشراف مستقبل ثانٍ "تصافح فيه النسمات جديلة حبيبته العابثة"، بينما الجو مشحون بأنباء عن فرق تتناحر وبيارق تهتزّ وما جرّتنا اليه الويلات المتعدّدة، وكأنّه يقول للحرب:" حلمي هو سخريتي الوحيدة منك وممّا نشهده".

مفردة "الموت" تكرّرت في مجموعة "الحالم يستيقظ" في أكثر من نصّ، مرّة تأتي خلاصاً من خراب المحيط المعاش، وثانية يأساً واستسلاماً من لدن فنّان تعذبت روحه من تلاشي ماحوله، وثالثة تصير فيها كلّ الحتوف التي مرّت "محض لعبة" ليس إلا!

وإذا ماكانت هذه المجموعة هي تجربة "خضيّر" الأولى، فإنّها بداية موفقة لشاعر تأنّى كثيراً على ما يظهر في اصدار نتاجه، حينما نقارنه بالتجارب البكر لمجايليه من الشعراء الشباب، حرص فيها على أن تكون قصيدته مجالاً للبحث فيما وراء المعنى للدخول الى عوالمه والتمعّن في قناعاته التي يسردها الينا شعرا خالصاًً بصوت هامس وبلغة بعيدة عن التعقيد، لكنّها في ذات الوقت لغة يريد لها شاعرها أن ترتقي بنصّه المكتوب.


تهذيب الألم

ليسَ من أجلي أنهضُ كلَّ صباحٍ بصوتٍ يتكسرُ

وحلمٍ يصدأُ.

ليسَ من أجلي أجولُ كلَّ يومٍ الأرصفةَ ذاتَها.

ضاحكاً من كتابةِ ذكرى، مؤجلاً غَدِي برعبِ يومي.

متوثِّبٌ للنسيان. مخلصٌ للسهو

أسهو عن مخاذلِ العيش

عن الأصدقاءِ وهم يكذبون

عن جثةٍ -هي الحقيقةُ- تبلغُها فتموتُ بين يديكَ

عن رِعدَةٍ تجيءُ وتنسلُّ دونَ اكتراثِ أحد

عن ظلٍّ زائفٍ وشعوبٍ بآجالٍ ورقية

عن الخيانات

عن أطفالٍ يموتونَ قبلَ أن يُدركوا الرمق

وعن شتلةِ المطاطِ تموتُ في الزاويةِ رغماً عني

....

ليس من أجلي

أرصفُ أيامي لأنساها

لأستقبل أياماً قديمةً، كي أنساها مرةً بعدَ مرة

أنا الذي أُريقُ عمري باحثاً عن عينٍ نظيفةٍ وقلبٍ طفلٍ

عن أجسادٍ من الضوء وملائكةٍ ممكنين

عن جدرانٍ بلا لافتاتٍ ورفقةٍ لا يضعون أقنعة.

من أجلهم،

الساهون عن الحياةِ بالحياةِ

ناكثو العُهود، خبّازو الأفئدة

أنهضُ كلَّ صباحٍ بصوتٍ يتكسَّرُ وحلمٍ يصدأ

واضعاً رهاني كي أخسرَهُ

أضعهُ وأعلمُ بتصدعِ الروحِ وهشاشةِ الشكوى

باللذاتِ التي خسرِناها وتلكَ التي تنتظر

بأرباحِنا المختنقةِ، بأصابعِ القدر

...

ليس من أجلهم

ولا من أجلي

أجلسُ كلَّ مساء

أفكرُ كيفَ أنَّ أحزانَ الآخرين، دموعَهُم وخذلاناتهِم المُرّةَ لا تُعير اكتراثاً لأحد.

ترقُدُ منسيةً ومُهملةً، كإطارٍ على الطريقِ السريع.

الحالم يستيقظ...احمد عبد الحسين



أحمد عبد الحسين

هذا شعر هو محض تأمل بعينَيْ الأسى، لوحة كابية لعالمٍ لم يترك لأحد فسحةً لمديحه، نعذر الشاعر أنه لم يرَ في عالمه ما يستحقّ الاحتفاء به، حتى ولا ذاته التي "ليس من أجلها ينهض كلّ صباح، ويجول الأرصفة ذاتها، ويرصف أياماً لينساها"، وكيف يمكن للذات أن تحتفي بنفسها وشؤونها حين الأشياء، كلّ الأشياء، ليست له: "ليستْ لي هذه المكتنزة بالمسرّة.......، ليست لي هذه الضحكة خلف الباب..".
ليس الشعر شأناً لغوياً محضاً، هذا مؤكد، مرّ زمانٌ على الشعر العراقيّ كان الشعر فيه بهارج وزخارف وانتشاء حدّ الذروة أمام صورة الذات في المرآة، لكن الحفلة انتهتْ بلحظة الحقيقة: ان كلّ فرح بالأنا فرح كذوب مادام العالم كما نرى أطلالاً وأنقاضاً، فليست الذات سوى رحلتها في الأشياء، ومرورها في المسارب اليومية التي تنشئ العالم من حولنا، وما دامت زاويتك التي تقطنها في هذا العالم مظلمة فلن يكون لذاتك نور.
مقدّر على شاعرٍ يسكن هذا التوتّر بين أنا تطلب على الدوام تبجيلاً ذاتياً من لدن شاعرها، وعالمٍ تتناقص فيه باضطراد الرهانات الدالّة على استحقاقه أن يكون عالماً، مقدّر عليه أن يكون "ملاكاً يصارع جحيمه الخاصّة، مثقلاً بذنوب غفلته".
الآخرون هم الجحيم؟ قديمة ولا تنفع لتوصيف ما نحن فيه، الجحيم الحقيقيّ يكمن في ان الآخرين هم الذات، أصبحوا فينا، صاروا "نحن" وها هم يزاحمون سلطان الشاعر على ذاته: " كلّ ليلة، يعوون في صدري كعاصفةٍ نسيتْ أن تهدأ". وليس صدفة أن عنوان أبرز قصائد الشاعر "مثقل بالغائبين".
الشعر المتطلّع إلى خارج تخوم الأنا هو أقدر على قول أنا الشاعر، هذه من مفارقات الشعر، فما من شاعر فارق بداياته إلا وأيقن ان الطريق إلى أناه يمرّ عبر الآخرين، كما الجنة تمرّ عبر جهنمات كثيرة، لكن دروب العالم التي نسلكها ستسلب منا هناءاتنا القديمة، أوهامنا عن ذواتنا، ولحظات الذكرى التي هي لحظات الفرح الوحيدة المتاحة:
الصبيةُ الذين افترشوا طفولتي
أخذوا كلّ مهارات الفرح في قلبي
أٌقفلوه
وتناهبوا المفتاح.
كنت أكتب عن علي محمود خضير مقالاً هو فصل من كتابٍ، فوجدتٌ نفسي أمام ديوانه "الحالم يستيقظ" الصادر عن دار "الغاوون"، غير قادر على تأجيل هذه الرغبة في الاحتفاء به سريعاً في عمودٍ عجول. لعلها الرغبة التي تؤاتينا في إظهار محبتنا، أو لعلها المعادل الكتابي للتصفيق أو لإبداء الإعجاب. أو كلمة من فرد في قبيلة ستنقرض هي ولغتها وعاداتها وتقاليدها يوجهها إلى أخيه: انني أفهم لغتك، فلعلّ في ذلك عزاء.


جريدة الصباح العراقية

24/04/2011

قصيدة ما بعد 2003 .. حجر السؤال في ماء الاجوبة الراكدة

التباس الهوية الشعرية وضبابيتها لا يمكن فصله عن ضبابيه المرحلة العراقية ذاتها، مجهوليتها الشاسعة
واضطراب لحظاتها المتلاحقة. عمل الشاعر اليوم كما يُخيّل لي يشابه من يعمل في حقل الألغام، تلك المهمة الدقيقة التي مهما اجتهد الخبير ودقق في تفاصيلها يبقى عمله مشدوداً لرعب انفجار مفاجئ يحيل جهده إلى ركام في لحظة واحدة. ولا اقصد هنا حياة الشاعر بل المتغيرات الانفعالية التي تصب لاحقاً في تكوين القصيدة لديه. بمعنى ان تلاحق الأحداث ولا عقلانيتها يفسد أي بناء افتراضي يعده الشاعر. المتغيرات السياسية والاجتماعية حدث وركن من مجموعة أحداث وأركان، غير ان القصيدة تحتاج إلى منابع/عوامل اكبر وأعمق ( رؤى، تأريخ ، ذكريات، موروث، عوامل نفسية....الخ) تتداخل وتتكامل فيما بينها لإنتاج النص.

اعتقد إن شعراء ما بعد 2003 استفادوا من سقطات الشعرية العراقية على مدى التأريخ السابق، حين كان الشعر أداة بيد الفكر المغلق على نفسه، الفكر الشمولي والأيدلوجي. شعر هذه المرحلة -في بعض نماذجه القليلة المضيئة- يتجه إلى الكتابة من اجل الشعر نفسه، غاية بحد ذاتها، ساعياً إلى استحكام صوته وتأصيل (شخصيته) بتجريب فنون كتابية مختلفة وتداولها والخلط بينها. هناك مزيج متداخل من المعرفة والتأمل والحدث اليومي العادي والفلسفة والموروث. القصيدة تنزع ثوب الخطاب المباشر السمج إلى مساحات الأسئلة الملتبسة، هذه الأسئلة ليست اغتراباً عن الواقع بقدر ما هي كرسي محاكمة لمكونات النفس البشرية ومسائلتها على ما آل إليه الواقع من دمار، هو نموذج غير معتاد على شعريتنا التي اعتادت على قلب الهزائم الكبيرة انجازات وهمية خالدة

.
الجيل يحتاج إلى فتح مصاريع التجريب الواعي الذي يجب أن يتلائم مع لحظة الانفجار الكبرى (2003).
يحتاج إلى بعض الجرأة والمغامرة والكثير من الجهد للفكاك من السقوط في مطب حداثة مفتعلة أو
استنساخ تجارب ( داخلية أو إقليمية) وان يجتاز المأساة بوقعها الآني إخلاصاً الى ان تكون كلمة الشعر صافية بعيدة عن انفعال اللحظة الشاردة.

لا يمكن لهوية الشعر ان تكون كاملة ونهائية. الشعر رحلة مفتوحة إلى المجهول، إلى الكشف الدائم عن مناطق كتابية ممكنة. إضافة لذلك، ان تجارب هذا الجيل لم تكتمل وتتخذ مشاريعها النهائية بعد، لذا من الصعب تحديد ملامح هوية القصيدة الآن. نحتاج إلى الابتعاد بمسافة زمنية كافية ستتكفل بالإجابة. يبقى الموضوع برمته بحاجة لدراسة أعمق. لكني مطمئن ان مدرسة شعرية عراقية تتكون وتحتاج إلى جهد نقدي يواكبها



كتب جواباً على تحقيق صحفي اجراه الكاتب علي عبد السادة في جريدة المدى بخصوص قصيدة ما بعد 2003.