الجمعة، ديسمبر 30، 2011

هوس التّعريف

علي محمود خضير


(1)
منذ أن أثبتت قصيدة النثر جدارتها في أن تكون شكلاً وخياراً شعرياً مضافاً إلى الأشكال السابقة وهي تحدث خلخلة في الوعي الشعري اختلف صداه باختلاف ذهنية التلقي للمثقف العربي، لكن، ومن جانب آخر كان لها دور أساسي في (إضاعة) مفهوم الشعر وتعريفه بعد ان أدخلت عليه مستحدثات مفتوحة في الشكل والبنية والأسلوب والتراكيب.

ويخطئ من يحاول إقناعنا ان للشعر تعريفاً واحداً أو ماهية محددة ودقيقة هذا وهم كبير ينتاب العديد من المشتغلين بالهم الشعري فتراهم يسرفون في الكلام والتنظير والشرح واضعين في اعتبارهم إرساء تعريف ناجح وأوحد للشعر (حسب اعتقادهم) وتنتهي اغلب محاولات هؤلاء إلى نتيجة مختصرة: لا شعر إلا ما اكتبه أنا!
هكذا وبلحظة واحدة يجعلنا أمام خيارين إما أن نكتب بمواصفات ما اشره أو التسليم بالتهمة الجاهزة السعيدة: انتم لستم شعراء!
هكذا أيضاً يكون الحوار الثقافي الفني عندنا غريباً للدرجة التي لا تسمح فيها بالرأي والرأي الآخر، لسنا مع الوسطية، إما أن تكون معي أو عليّ، انه فعل يليق بالمتطرفين ولا يمكننا أن نسلم انه منتج من عقل ثقافي واعٍ.
ليس بعيداً عني، ما أراه واسمعه من هياج الحرب الكلامية والجدالات الأسطورية بين متعصبي طوائف الشعر بأنواعه في كل تجمع أو أمسية أو مهرجان يجمعهم، هم أيضا مصابون بوهم التعريف الأوحد للشعر ولا يمكن إقناعهم ان الشعر أفق متشظ لا يمكننا جمعه في آنية معدنية والغلق عليه، لا يفوتني الذكر ان هذه الصراعات تتم بعيدا عن أفق النقد الثقافي الذي يفترض ان يتصدى له الشعراء بعد ان يئسنا من كسالى النقد.
يصدمني صديقي حين يقول انه بات حائراً في تمييز الشعر الجيّد وسط ركام القصائد المتشابهة، وكأنه فقد حساسية التذوق الشعري وسط اختناقات التعريفات الجاهزة.


(2)
يُخيل لي ان تذوق الشعر عندنا يأتي بصورة سطحية وبدون جهد ذهني بل بالاعتماد على سليقة صنعها وعي ولا وعي جاءا من قراءات طويلة أدمنها شعرنا العربي التليد في مناهج التعليم، هكذا يكون تلقي الشعر بناء على التعريف المخزن في داخلنا (تعريفنا الشخصي) ولا مجال إذن، لمن يخالفه، في النجاح في أن يكون شعراً على الأقل.هكذا يكون قمة ما يبغيه الكاتب أن يُعترف بما يكتب، انه شعر!
لا يمكن الاقتناع بأي حال ان ذائقة كُونت بإرث ثقافي ونفسي وبيئي وسياسي خاص فصاغت مفهومها الشعري واستقرت عليه يمكنها ان تكون وحدها الدالة على حقيقة الشعر المشعة، هذا إن اتفقنا أن للشعر حقيقة واحدة!


(3)
جهد اللهاث وراء استيراد تعاريف ووصفات جاهزة والاختباء خلفها ممكن ان يعوض بجهد آخر (حقيقي) لتعميق التجربة الشعرية الخاصة والاستحكام على صوتها المتفرد الذي سيكوّن بمرور الوقت وصقل التجربة ونضوجها حالته المتفردة وعالمه المميز عندها سيدع الشعر يتحدث عن نفسه ويخلق تنظيره، هذا هو شأن تجارب الشعر الإنسانية الناجحة التي صمدت عبر الأحقاب.


(4)
أن نؤمن ان للشعر ماهية وحيدة ثابتة معناها اننا نلغى عامل التطور الفني وهو احد ركائز جوهر الإبداع وإلا كيف جاء لنا الشعر ووصل إلى ما نحن عليه بعد ان كان يكتب ب(ماهية) امرئ القيس، وهل من المعقول ان شعر زهير بن أبي سلمى وأبي نواس والمتنبي والسياب يحمل صفات فنية واحدة تصلح ان تكوّن تعريفاً موحدا للشعر.
الشعر فن أصعب وابعد من (حشره) في جملة مصطلحات أفقية لا تحترم حرية الموهبة المجددة.
كذلك يمكننا القول ان كل تجربة شعرية (حقيقية) لها أن تصنع شعريتها دون ان تكرسها كمفهوم موحد للشعر إلا بما يتطلب من شروط الإبداع والرصانة الفنية.
دعونا نكتب بسلام وبإخلاص ومثابرة بعيداً عن حمى الكلام الجانبي المشوش، فما أكثر ما يكتب عن الشعر اليوم وما اقلّ الشعر اليوم.

ليست هناك تعليقات: