السبت، ديسمبر 31، 2011

تأملية الحياة في "الحالم يستيقظ"

عمر الجفال

عن ملحق ادب وثقافة: جريدة الصباح العراقية

قد يبدو صدور مجموعة علي محمود خضيّر الشعريّة، (الحالم يستيقظ) مؤخراً عن دار الغاوون، متأخراً بعض الشيء إذا ما قُورِن بِصدورِ مجاميعِ جيله الشعريّة، لكن من ناحية أخرى، قد يُعطي هذا التأخّر بعض الشيء ميزة لخضيّر. وهذا بالضبط ما اختلف فيهِ منذ ظهوره، إذ طالما كان متأنٍ في نشرِ نتاجه الشعري، الذي يعدّ قليلاً!.

تأخذ مجموعة (الحالم يستيقظ) طبقات متعدّدة في القراءة، فخضيّر يلعب في مساحة شاسعة، وهي مساحة لم يدركها الكثير من أبناء جيله. يترتّب نص خضيّر على قرائتين قد لا تبدوان متوازيتان لكنّهما تشكّلان العلامة الفارقة في شعره، إذ أنه ينهض بالجملة البسيطة المُدرَكة من قبل المتلقي البسيط، وتحمل هذه الجملة شفافيّة كبيرة في لحظة التماس مع القارئ، لكنها –الجملة- تحمل في الوقت ذاته، قناعاً مغايراً في النبش، حيث أنها تحمل من الرفض الكثير:

(كان الليل ثقيلاً كسرٍّ قديم

يُلّحُ بأسئلةٍ لا جواب عليها(

وهذا المقطع، حين يُأخَذ مُنفَرِداً لا يعبّر عن القصيدة ككل –وهذا ما سنتطرّق إليه-، لأن القصيدة ترصد حول شخص يدور في المنزل، ويكتشف أشياء جديدة كأنه لم يراها من قبل، ويعامل أشياءً أخرى بغاية السذاجة، هذا الشخص، يتأمل الخارج بعين ثاقبة باحثاً عن أصغر التفاصيل، ويتأمل الداخل بعينٍ فاحصة، حتى ينقلب إلى جوانيّته، ويبدأ بنبش الأشياء الغير مرئيّة، الأشياء الأكثر فلسفيّة؛ من هنا، ينطلق علي محمود خضيّر في كتابةِ قصيدته. أغلب نصوصه تأمليّة ولا تسير ضمن تيار اليوم السائد في الشعر العراقي. اليوم العراقي ينفلت من قصائدِ خضيّر، وتبدأ القصيدة في البحثِ عن المهمل. ومِنَ المهملِ، تتشكّل قصيدة متأنية تتراكم فيها الصورة والسرد الشعري المقتضب.

لا يمكن تحديد مرجعيّة شعرية لخضيّر، لكنه، يختلف بشكل أو بآخر، عن أبناء جيله من ناحية توتّر القصيدة وتصاعدها. الشعر لديه لا يحمل توتراً بقدر ما يحمل تأنياً وتأملاً في الحياة واليوم.

قصيدة خضيّر، نابضة بالحياة. إذ أنه يكتب الحياة، لكن الحياة ليست من "الخارج" وإنما من "الداخل"، من داخل شرفة المنزل أو شبّاكه:

(ومَنْ يَدري أن لبركانه آيات في الأزقّة الضيّقة

والبيوت الواطئة،

آيات لا مرتلين لها ولا منصتين)

قصائد (الحالم يستيقظ) خرجت من عزلة الشاعر. الشاعر الذي يفتّش عن الشعرِ أينما حلّ وذهب. وهذا النوع من الشعر التأملي، ينحاز إلى الذات، إذ لا يجد موضوعات كثيرة غير الهواجس الداخلية ليتحدّث عنها ضمن نسقٍ شعريٍّ. لكن خضيّر قلب الموازنة، وبدأ بتركيب القصيدة من الخارج إلى الداخل، وأثبتت العزلة هذه المرّة أنها ليست (ذاتية)، وإنما خاضعة للآخر وللمهملات من الأشياء.

القصيدة، القصة، المسرح

منذ بداياته، كان يهتم علي محمود خضيّر، بخلق قصّة داخل القصيدة. وهذه القصّة على الرغم من أنها مموّهة، لكنها تستجلب نفسها وتفرضها داخل إطار القصيدة، قد تفتح بابها على الغموض أحياناً، وأحايين أُخرى تشرّع باب التأويل. هذه المزاوجة، بين الحكاية القصصية وبين القصيدة، دارت في أغلب مجموعة (الحالم يستيقظ) الشعرية، ولا تجد هذه المزاوجة في القصيدة القصيرة فحسب، بل أنها تمتد إلى القصائد الطويلة –نسبياً-.

علي محمود خضيّر حائك، وصانع ماهر، فهو، ينشغل بالقصيدة، والقصيدة عنده تأخذ ما تشاء من وقتها حتى تصبح ناضجة وجاهزة للتلقي.

وبالإضافة إلى القصّة، هناك حسّاً مسرحيّاً عالياً في قصيدة خضيّر، يظهر التصاعد الكبير –للإيقاع الشعري- من أوّلِ مفردة حتى آخرها، تمثل نهاية قصيدة خضيّر ذروة مشابهة للذروة المسرحية التي تنتهي معها الحكاية وتفتح مدينة التأويل أمام العقل ليدخل فيها.

في قصيدة (خيار خاسر) يبدأ الأمر هكذا:

(حدثتك مرّة

كل ليلة تصلح أن تكون الأخيرة وكل نهار يحمل بقلبه بذرة العدم).

وتنتهي بهذا الشكل:

(أقوال كثيرة وأحاديث

أحاديث ما كان لها أن تنتهي

طالما عذّبت المَلكَين وهما يعدّان رسائل الليلِ والنهارِ التي أدرت لها

ظهري

تعبا،

وتركاني هائماً في دروب لا تستحي

فهل سترحلُ أنت أيضاً؟

-...)

هذه –الذروة- التي انتهت اليها القصيدة، مشابهة جدّاً لمسرح العبث، لكنها شعرّية بقدر تداخل النص الشعري بالأجناس الأدبيّة الأخرى، وهذا بالضبط ما نظّر إليه الشعراء للوصول إلى "النص المفتوح" الذي يتسم "بالسرد" حتى يستوعب الأجناس الأدبيّة المتعدّدة. لكن في قصائد (الحالم يستيقظ)، اللغة اقتصادية –إذا جاز التعبير- والنص لا يمتلأ كلاماً، إنه مقتصد على القصيدةِ التي تحاول جاهدة أن تكون مثالاً مكتملاً عن الإيجاز الشعري في مرحلة التطوّر العصري الهائل الذي لا يتيح للقارئ كمّاً وقتيّاً لتأويلِ قصيدة طويلة تتداخل فيها أصوات وأحداث كثيرة.

نفي الذات

ذات الشاعر في (الحالم يستيقظ)، تبدأ من العنوان، فمنذ لحظة الاستيقاظ تكون ذات الشاعر قد "تشظّت" والتبست الجميع، على الرغم من أنها تعود إلى ذاتها عبر مرويّة الراوي الذي يتحدّث عن الشاعر وليس العكس. الشاعر هنا ليس راوياً بل مرويّاً. العنوان ذاته، يفتح دلالة على أن الحالم -الذي يأخذ بُعدَاً جمالياً- يستيقظ، واستيقاظ الحالم هو بمثابة صدمة تلقاها، هذه الصّدمة مثلت الحياة المتقلّبة، من هنا بالذات، تبدأ مرحلة النفي، وكأن الشاعر أيقظ الحالم ولم يستيقظ، لن يستوعب الشاعر "الاستفاقة" فجعل نفسه مَرويَّاً ليبقى في حلمهِ الطويل:

"أيُّ معنى من انتظار موت قادم لا محالة.

من اكتشاف أن يدك لا تُعينك على كتابة سطرٍ واحدٍ.

أو، من اشتياقٍ لا يُفضي إلا لوخزةٍ باردة أيسر صدرك".

وأعتقدُ أن ما سيمثل المرحلة القادمة من شعر علي محمود خضيّر، شعراً يقترب إلى المثاليّة في بناء المكان والحياة، الشعر الحالم بمثاليّة الكون والوجود، الشعر الزاخر بالحبِّ والتفاصيل الجميلة بَدلاً عن الخوف الذي يحيط العزلة والداخل والخارج وحتى جوانيّة المرء.

غزل خالٍ من الحرب

لقد أخذت الحروب المتوالية على العراق، تلتهم الجمال، حتى في الشعر أثبتت الحرب وجودها بجدارة، يكاد من النوادرِ، أن نجد شعر "حبٍّ عراقيٍّ" خالٍ من آثارِ الحرب. وهذا بالطبع ما يفرضه الواقع العراقي، لكن التملّص منه يعيق الحساسيّة الشعريّة عند الكثير من الشعراء، لذلك كان على الشاعر أن يخلق من كم الخراب الهائل نصوصاً شعريّةً جماليّة تنبذ الحرب.

عند علي محمود خضيّر، الأمر أخذ منحى آخر. ليس هناك سوى المحبِّ والأشياء المحيطة. الحرب غائبة، لكن الرفض متواجد بشدّة. هناك رفض يتوالد في قصيدة الحبِّ في (الحالم يستيقظ) ينبذ التعصب في المجتمع العراقي، وينبذ التقاليد السائدة:

(ستكلمينني عن أقراطكِ، عن الأب الصارم).

أو:

(وليس كأيّة امرأة، كانت تُجيد القول:

- الأمنيةُ.. عذابُ الروح.

- الألمُ أخرسُ ولا يحُسن النطق.

كنتُ أُدوِّن ما تهمسُ...، تدوينَ ملاكٍ يُصارعُ جحيمَه الخاصّة،

مثقلاً بذنوبِ غفلتِه، كنتُ أرقبُها تنوءُ بجرحها القديم، مخُفيةً -ما

استطاعت- حبَّاتٍ من دمعها الأسود، ينزلُ سريعاً، فتخذلُها المناديل).

إن الجيل الشعري العراقي الجديد -علي محمود خضيّر من البارزين فيه- يثبت تنوّعاً شعريّاً احتاجته الشعريّة العراقية في المرحلة الراهنة، ويمثل هذا التنوّع الفراغ الشعري الذي ولّدته الأجيال العراقية السابقة عِبر كتابتها لقصيدة تقترب في البناء والتصوّر -على الرغم من فردية الشاعر.

(الحالم يستيقظ)، باكورة خضيّر الشعريّة، ابتعدت عن الكثير من الانزلاقات التي تقع فيها الكتب الشعريّة التي تتسم بالقصيدة اليومية، وهذا ما يعطي للشاعر الحقّ بتأنيه في طباعة مجموعته الشعريّة الأولى.

حتى تجد خلوتك الدافئة

لن يهمَّكَ..

ستمشي في الشارعِ المكتظِّ وقتَ الغروب

وتحتدمُ بالحشودِ المربكة

الوجوهِ العجولةِ والوجوهِ الحائرة

ستنسى أنكَ نُسيتَ

وتوفرُ دموعكَ قليلاً،

قليلاً حتى تجدَ خلوتَكَ الدافئة

ستقولُ: لماذا؟

تسألُ عن الأسبابِ التي تجعلُ السكاكينَ تَخرقُ صدرك

وتَحزُّ رأسَ الصبر

....

.....

لن يهمَّكَ..

أن تبكيَ قليلاً الآن،

فقد هدَّ المساءُ انتظارَك

وخلوتَكَ السراب.

لا يهمُّكَ..

أن تفتحَ الهاتفَ المحمول

كلَّ هنيهة

تطالعُ ثقبَ روحِكَ الهائمة، وتكتم.

لا يهمُّكَ..

أن يراكَ فضوليٌّ عابرٌ،

أن يضحك.

أو أن تعثرَ بعلبِ الكولا الفارغة،

تعثرَ بالصوت.

الآن..

بعد نسيانِكَ، بعدَ البكاءِ القليل، الفضوليَّ العابر

والعثراتِ الصغيرة.

هل يهمُّكَ أن تَعرفَ أَنك منسيٌّ أو حاضرٌ؟

هل يهمُّكَ أن تُدركَ فداحةَ أن تبكي،

تدركَ المسافةَ بين الحُلم واليقظة،

تُدركَ الخسارة.

سيمرُّ الوقتُ ثقيلاً أو سريعاً

وستعرفُ أَنكَ، وحدكَ، صديقُ الانتظارِ المرّ.

الجمعة، ديسمبر 30، 2011

الحالم يستيقظ وتعدد البنيات الشعرية

زهير الجبوري

http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=13568جريدة الصباح العراقية

اشعر و أنا أقرأ قصائد الشاعر علي محمود خضير ، ان هناك جيلا باستطاعته الغور في ميدان التحديث الشعري بكل ثقة وبكل مهارة ، ومهما تعددت مسميات الاشتغال الشعري وفق تصنيف الاجيال ، فأن التجربة الشعرية العراقية ولادة لكل الاشكال.

غير ان جيل (ما بعد المحنة الاولى) في العراق ، استطاع ان يكشف عن ملامحه مؤخراً على يد شعراء شباب ، علي محمود خضير واحد منهم .. غير انه يحتاج الى استوقاف تأملي للتعامل مع شعره ، فهو يشتغل على تاريخانية واضحة بإنحيازه على مجموعة من ابناء جيله ، وحثّهم على التواصل ، مما يؤكد وعيه العميق في ذلك .. وقبل الدخول الى مجموعته الشعرية البكر (الحالم يستيقظ) ، لابد من الاشارة الى انه يغور في جدلية القصيدة الرؤيوية (الغربية) ودلالات الشعرية البودليرية التي تنفتح على شعرية الاشياء بذهنية لغوية واضحة ، لكنها –أي قصيدة علي محمود- لا تخلو من كونها ابنة الواقع.

(الحالم يستيقظ) ، مجموعة شعرية تستدعي قارئاً متأنياً ، فثمّة بناء لغوي .. وثمّة تشكلات صورية تكونت عبر علامات لغوية.. وثّمة لعب فني مقصود ، كل هذا احال له ان يقدم تجربته بالشكل الذي طرحه ، ولكن عليه ان ينفك من هذا التعميق الشعري المكثف ، لأن ما تخفيه جمله الشعرية من معنى ضامر، كفيلة من انسراحه بشكل آخر ، ولي في ذلك تطبيقات نقدية في قصائد المجموعة.

نلمس من خلال تفحصنا لقصائد المجموعة ان هناك بنى مكونة لشعرية تأملية ، البنى هذه بانت بقصدية البناء اللّغوي / الشعري، أهمها (بنية الأنا.. بنية الهاجس..بنية الآخر) ، كلّها شكلت تغريبية واضحة في الجملة الشعرية لديه..أرى بأنه –أي الشاعر- نجح في جعل القصيدة تنطلق من جوهر الذات ، وهذه تعتمد على إلهامية عالية ، حتى اننا نشعر أن شعرية الجمل في قصائد المجموعة أو غيرها من القصائد التي نشرها في أماكن متفرقة ، مستلة من عمق القصيدة ذات الطابع البنائي / الاسترخائي ، طابع غلب عليه اللّعب اللّغوي لتفعيل المخيلة التي تشكل صوراً شعرية ناضجة.

:(في الجانب التطبيقي)

صحيح ان قصائد (الحالم يستيقظ) كتبت بنمطية شعرية محدثة ، الاّ أن هناك شحنات بارزة وشاخصة انبثقت في شعرية الشاعر ، الشحنات تنصب في بوتقة الجمل الشعرية عبر علامات تعبيرية..

شحنات تناغمت مع الحس النفسي عبر دلالات هاجسية فاعلة ، او كما يقول (هربت ريد) (القصيدة هبوط في الطبقات النفسية العميقة) ، وقد اشرنا الى البنى المكونة المرسلة .. لكنها بنى استرخائية ، يكررها الشاعر دائماً على خلفية شروط القصيدة و متطلباتها الفنية .. نقرأ في قصيدة (كأن لا ليل قبله) كيفية استرسال الشاعر في خلق عبارات شعرية وفق اشتراطات البنى التي ذكرها:

كان يشعر بالوحشة ،

وحشة من يموت اللّيلة.

كأن جماعةً من الموتى او الملائكة

ينتظرونه كي يأخذوه معهم.

حيث لا رجعة أبداً . (ص7)

في المقطع هذا ، تظهر العبارات (يشعر بالوحشة .. وحشة من يموت .. كأن جماعة من الموتى حيث لا رجعة) ، وقد انطوت على عمق شعري للطبقات البنائية المنفتحة على الهواجس المتناظرة مع الحس السايكولوجي ، وهذا ما لمسناه في القصائد (وسواس .. تهذيب الألم .. حتى تجد خلوتك الدافئة .. طقوس العطشى .. وغيرها) ، مع اختلاف الموضوعة المطروحة وطريقة بنائها الفني في كل قصيدة.

في حين نجد في بعض القصائد هيمنة النسق النثري بمهارة البناء السردي ، الأمر الذي جعلنا على قناعة تامة بأن (علي محمود خضير) هائم في شعرية التحديث النثري ، فالمهارة في شعرية النثر ، هي المهارة في صلب المعنى الشعري ، حيث لا ايقاع الوزن ولا قافية البيت الشعري ، نقرأ في قصيدة (اذ تعكس الشمس احمر شفاهك):

(لنذهب جهة الشاطئ ، نحضن زرقته باحداقنا ، نكتري زورقاً ينتهي

بقلبينا المرتجفين لامواج تصخب . سنحيا كما نشاء اليوم.

كيف يقال الحب؟ أهمس .. تنصتين.

كم منك فيَّ؟ تهمسين .. أنصت) . ص41

أما في قصيدة (رسالة ستضلُّ عنوانها ايضاً) التي كتبت بـ(4) مقاطع ، نمسك خيوط الكتابة النثرية برؤى شعرية مختلفة بعض الشيء ، رؤى استدعت المخيلة لتشكل نصاً شعرياً بمهارة لغوية اخرى ، فقد مازجت بين (انا الشاعر.. و بنية الاخر المقصود)، ففي المقطعين الاول و الثاني نقرأ العبارة (اتذكر الآن بلحظة شاردة هبطت عليّ فجأة) و (أتذكر اني سألتها مرة) ، لكن المقطعين الاخرين تمازج فيهما الحس الهاجسي بلغة مجازية واضحة:

المقطع (3) : صرت مجذافاً كلما صارت زورقاً، و شارعاً كلما ازدحمت بالاخرين . ص46

المقطع (4) : لكي ان تعيشي كما ترغبين .. ولي ان احلم . ص46

كل مقاطع القصيدة ، كشفت عن بنية تكثيفية وما اراده الشاعر هو الابانة عن قدرته في تعددية البناء الشعري المتداخل مع صلب الموضوع و قصديته في المعنى..

من جهة اخرى ، قرأنا في المجموعة بعض القصائد المقطعية المكثفة ، وهي تقترب الى ما يسمى بـ(الضربة الشعرية) ، كما في (طقوس العطشى .. كما تدخل شارعاً بالخطا.. أوزار المعنى .. افتراضات .. كلاكيت.. امنية .. اوان) ، حيث الانسراح الشعري بطريقة بنائية مكتملة ، قسم منها كتبت بطريقة (قصيدة الومضة).

في قصيدة (امنية) تتماهى اللغة الشعرية باكتمال لغتها التكثيفية (كم تمنيت، وانا اسلم نفسي كلّ ليلة الى تمرين الموت ، الاّ استيقظ ثانية) ص58 ، وهكذا في النصوص الاخرى حيث القدرة والتنوع على كتابة نص شعري او قصيدة شعرية لها ابعادها الدلالية الناضجة من كافة الجوانب.

في تجربة (الحالم يستيقظ) ، فتح علي محمود خضير نافذة الدخول الى ميدان الشعر المرسل بتروٍ و تأنٍ ، غير اني ادعوه الى فكل انشداده داخل قصائده ، وهذه العملية واضحة لدى القارئ ، ومع مرور تجربته ســيقف على بعض النقاط التي تدله الى فتح شفرات جديدة في كتابته الشعرية..

احســب انه وريث السلالة البصرية التي افاضت الكثير في الشــــعرية العراقية على يد شعراء كبار.

طاقة الحب

علي محمود خضير



لا يمكننا أن نفهم من أين يأتي هذا الملاك النبيل بكل تلك السلطة الودودة!
الحبُ، هذا الملاك الذي يفرض صداقته بسلطة ودودة تناغي كل تفاصيل حياتنا فتجملها وتجعلها تسمو بذاتها حتى وان كانت تعاني حالات بؤسٍ وانكسار، ربما من النادر أن تكون السلطة ودودة، الأمر هنا مختلفٌ مع هذا الملاك الذي خَسِرنا كثيراً لأننا لم نحترم وجوده في حياتنا.
هل هناك مفاجأة إذا قلت ان هزائمنا وانكساراتنا وقسم فاجع من مشاكل مجتمعاتنا المعقدة من أسبابه إننا لا نحب بشكل جيد، أو ربما لا نعرف ان نحب! نعم بهذه البساطة، ولكن، ما هو الحب الذي أتحدث عنه الآن؟
ربما يكون الحب غائباً أو مغيباً كطاقة كامنة فعالة تحركنا وربما لا يكون موجوداً إلا بالمعنى الجسدي في اللحظات الحميمة رغم انها لا تعبر بالضرورة عن لحظات حب، نحن بحاجة إلى بحث وتفسير غيابه الفعلي –كواقع- رغم حضوره الساطع –كافتراض- في أدبنا وخطبنا ورميم كلامنا اليومي المستهلك.
من المهم الإشارة ان العاطفة التي اقصدها ليست نفسها التي تقود إلى الضعف، هناك عاطفة (ضيقة) تقود وتقيد الإنسان وتحيله ضعيفاً منكسراً لا يتصور الحياة إلا بمقدار ارتباطها بحبيبه ( الآخر) ومناخ التغيرات التي تحدث بينهما ( كأن العالم لا شيء سواهما) هنا تصبح العاطفة طاقة سلبية ومصدر ضعف في ذات الإنسان وهي ليست أيضاً العاطفة الساذجة التي هي سمة بارزة يلعب عليها تجار العواطف والرموز لتحقيق مكاسبهم في اللعب على قلوب متيمي الرمز بمختلف وجوهه الدينية والعرقية والسياسية.

اعرفُ ان الحب لا يعيش في أي بيئة، وان هناك نفوساً بور تستأثم الحب وتمارسه كأداة ترهيب وخديعة، تخاف منه وتقمعه، ولا تتورع في أن تستخدمه ابتزازاً ضد تلك النفوس الغير محصنة.


هل لنا أن نتخيل فقط كيف ستكون ملامح مجتمعاتنا وطريقة حياتنا بدون أن نحب؟ لقد جربنا ذلك فعلياً في السنوات المجنونة السابقة فقد كانت سنوات كراهية بامتياز، سنوات استيقظت فيها الوحوش الكامنة داخل صدورنا فعاثت في تفاصيلنا موتاً وتهجيراً واعتداءاً.
الحب فعل إنساني خيّر يشمل كل حركات الإنسان وسكناته، تفكيره وسلوكه ليس فقط رسائل عاطفية بائته في الجوالات أو ورود اصطناعية بلا روح.
الحب أن نقرأ قصيدة جميلة أو رواية جيدة ونعترف لصاحبها بأنها قصيدة جميلة ورواية جيدة!
الحب أن نسمح للمجنون بالعيش دون أن نقلق مملكته باستفزازنا وسخريتنا وجنوننا الضدي!
الحب ان نحترم الكنيسة والمندي كما نحترم المسجد والحُسينية. فعلاً وسلوكاً لا قولاً وشعاراً، هذه ببساطة بعض الأسئلة التي يجب ان نقف عندها في ذكرى عيد الحب الذي تجاهلنا وجوده -كالعادة- إمعاناً في تهميش الأعياد الايجابية!
المهم ان يتحول الحب كشعور داخلي إلى سلوك ايجابي واقعي في الحياة، إلى طاقة تَفعل لأنها تُحب لا تنتظر شيئاً من احد ولا تستسلم لمنغصات الوجود وبيانات نقضه.

وسواس

لا معنى لهذا الوسواسِ غيرُ احتراقِ اليابسِ والأخضر من شجرةِ العمر.

كما تُقبِلُ على بيوتٍ متشابهةٍ فتتداخلُ عليكَ أبوابُها وروائحُ ساكنيها

وأيُّ معنىً لاختلاسكَ لحظةَ استرخاءٍ بينَ ساعاتٍ طوال وأنتَ تصكُّ على أسنانكَ ورأسكَ.

ايُّ معنىً من انتظارِ موتٍ قادمٍ لا محالة.

من اكتشافِ أن يَدكَ لا تُعينكَ على كتابةِ سطرٍ واحدٍ.

أو، من اشتياقٍٍ لا يُفضي إلا لوخزةٍ باردةٍ أيسرَ صَدرِكَ.

ومُذ كانَ الموتُ ديناصوراً لا يطلعُ إلا من كتبٍ بأغلفةٍ خضراءَ، ويرتمي بهيئةِ تابوتٍ على رصيفٍ ضيق، كنتَ يَومها طِفلاً كاملَ الجهالةِ وكانَ رُعبُكَ دينارُ ذهبٍ في صرّةِ بخيل.

وأنتَ، عبدُ الغدِ

نسّاءُ الأمسِ

كافرُ اللحظةِ

يا من تستدعي أشباحَكَ واحداً بَعدَ واحدٍ لتفرشَ بِهم ليلَكَ. وتجرُّ غَدَكَ بوسواسِ أمسِكَ. قديمةٌ نُدُوبُكَ وساخنةٌ.

فكابُوسُكَ الطفلُ لازالَ يشربُكَ على عجالةٍ منذُ عشرينَ أو أقلّ، يشربُكَ ثم يُعيدُكَ إلى الكأسِ نفسها وهو يَضحك.

وخيبتُكَ عينُ أعمى صَدّقَ بِوعدِ ظلمةٍ أسرّتهُ بفرارِها فأَمِن، ليفتحَ عينَهُ على ظلمةٍ.

كخيبةِ طفلٍ يلهو بطينٍ لن يصيرَ تمثالاً مهما دَعَكهُ وتمنّى.

قديمةٌ نُدُوبُكَ وساخنةٌ.

وأنتَ، قفّاءُ آثارِ الغائبين

الراحلونَ إلى الهناك

لا فيء في قوادمِ أيامكَ

فلا تهدرْ منَ الهنا الكثير

وتَوَقَّ.

أما رعبُكَ فحياتُكَ.

توأما حزنٍ لن يفترقا حتى يعبرا الممرَّ الأخيرَ.

وأمّا أنتَ فحيرةُ طفلٍ أمامَ بيوتٍ متشابهةٍ،

شجرةٌ كسلانةٌ يَحترقُ فيها اليابسُ والأخضر

وتعبثُ الريحُ بثقوبها دون معنى.



رجولة!

علي محمود خضيّر



( 1 )

للرجولة ِ عندنا مفهوم عجيب حوّلنا ومنذ عصور إلى امة ذكورية خالصة، ومجتمع ذكوري خانق، وثقافة ذكورية ناقصة، ولكن، ما هو المفهوم السائد لمصطلح الرجولة؟. وهل الرجولة مظهر أم جوهر؟ تطبيق عملي لمُسَلمات قادمة من عصور التحجر والصنمية أم مفهوم إنساني يحمل في طياته أفق وفكر ومدى تطبيقي ومشروع.
أكاد اجزم، تماماً، إن الرجولة بمعناها السائد لدينا هي تطبيقات خارجية مظهرية لمفهوم واهي للشخص الحاكم الذي لا يُناقش، الزاعق الذي لا يَسمع، صاحب الكف الضاربة والوجه المتجهم والقلب الميت، الرجل عندنا أداة عنف مميزة، وهو أيضاً مصطلح مقدس، مصان من المثالب بعيدٌ عن متناول الخطابات الاجتماعية أو العرفية أو الدينية.

( 2 )

وقد تكون مجتمعاتنا بإرثها ( الرجولي) العامر اكبر الدلائل على ضحالة هذا المعنى وكارثيته وما قادنا إليه من مأس ٍ وهزائمٍ إنسانية كبرى وتراجع صادم بين الأمم ، مجتمع مشوه يسمع بأذن واحدة ويرى بعين واحدة (غالباً ما تكون حولاء) وينطق بلسان طويل سليط، حواس تعمل دون وعي فكري تحت سلطة الموروث الأسطوري لمعنى الرجولة القادم إلينا عبر آلة الزمن الخالدة من عصر وأد البنات ودفنهن برمال الصحراء المحرقة، إقصائه لنصفه الآخر في كل شيء – عدا الفراش طبعاً- جعل أفق الحياة يتضيق ويختنق بسلطة الرجل الهائجة.

( 3 )

الرجولة كممارسة تطبيقية ( نسخة مصغرة) لما تفعلهُ السلطة، الرجولة في البيت
( تجلي) من تجليات دكتاتورية الحكومات الشرقية.
بالمناسبة، الصورة الشكلية للرجل هنا ليست حصراً على الرجال وكينونتهم فكم شهدنا ( نساءاً مسترجلات ).


( 4 )

فضلاً عن التمظهر الاجتماعي لمفهوم الرجولة والذي قد نجد له عذراً عند الطبقات ( الغير مثقفة) ولست هنا بموقف تعريفها، وجدت أن الرجولة امتدت بحضورها الطاغي لتصل إلى أدباءنا ومثقفينا المحترمون وهم مرآة العقل والتقدم والتفتح وأخره من صفات النور التي نرجوها بهم، في إحدى الأمسيات الخاصة التي شاركت بها مؤخراً وعند قراءة احد الشعراء لقصيدته كان الرجل – الشاعر يستخدم صوتاً خفيضاً هامساً يتلائم مع طقس القصيدة الهادئ وطبيعتها الشكلية والفنية التي تفرض عليه قراءة متأملةً خافتة.
غير ان نفراً من الحاضرين ( كان الحضور نخبوياً ) استهجن قراءة الشعر بهذه الطريقة وهذا لا يعنيني هنا بقدر ما فاجئني كلام أدبين جليلين لهما من الاسم المحترم ما يكفي الذيَن انتقصوا من (رجولة) الشاعر كونه يقرأ بصوت خافت!، احدهما (خرق) طبلة أذني بعبارة ( هاي الزلم الخشنة!؟) أدركت حينها ، ويا للحزن، ان الصورة الشكلية الجاهزة للرجل امتدت لتصل الطبقة التي نعول عليها في بناء مجتمع مدني متحضر والاّ كيف للأديب المحترم ان يختصر ويحصر الرجولة بالصوت الزاعق المدوّ. وكيف نفسر ان تُضرب المرأة على يد رجال -أشداء على (زوجاتهم/ أخواتهم/ بناتهم( رحماء بينهم- ضرباً يصل بمنفذه لحدود الحيوانية ( نفاجئ إذا عرفنا أن بينهم رجالٌ يحملون شهادات الدكتوراه وأطباء ومهندسين وقامات أدبية كبيرة).

( 5 )

الرجولة في البداية وقبل كل شيء شكل إنساني ومبدأ وموقف، الرجل أمان لا خوف واستبداد يفرضه بقوة اليد واللسان، الرجل قيمة جمالية واعية يجب ان تُربى الأجيال القادمة على تفهم معناها الإنساني العميق وضرورتها الملحة بعيداً عن صورة الرجل ذو الشارب المنفوش والكرش العظيم والكف الضاربة والصوت العالي والدماغ الفارغة.

( 6 )

كم رجلاً يدرك هذه الحقيقة؟

قصيدة ما بعد ٢٠٠٣

التباس الهوية الشعرية وضبابيتها لا يمكن فصله عن ضبابيه المرحلة العراقية ذاتها، مجهوليتها الشاسعة واضطراب لحظاتها المتلاحقة. عمل الشاعر اليوم كما يُخيّل لي يشابه من يعمل في حقل الألغام، تلك المهمة الدقيقة التي مهما اجتهد الخبير ودقق في تفاصيلها يبقى عمله مشدوداً لرعب انفجار مفاجئ يحيل جهده إلى ركام في لحظة واحدة. ولا اقصد هنا حياة الشاعر بل المتغيرات الانفعالية التي تصب لاحقاً في تكوين القصيدة لديه. بمعنى ان تلاحق الأحداث ولا عقلانيتها يفسد أي بناء افتراضي يعده الشاعر. المتغيرات السياسية والاجتماعية حدث وركن من مجموعة أحداث وأركان، غير ان القصيدة تحتاج إلى منابع/عوامل اكبر وأعمق ( رؤى، تأريخ ، ذكريات، موروث، عوامل نفسية....الخ) تتداخل وتتكامل فيما بينها لإنتاج النص.
اعتقد إن شعراء ما بعد 2003 استفادوا من سقطات الشعرية العراقية على مدى التأريخ السابق، حين كان الشعر أداة بيد الفكر المغلق على نفسه، الفكر الشمولي والأيدلوجي. شعر هذه المرحلة -في بعض نماذجه القليلة المضيئة- يتجه إلى الكتابة من اجل الشعر نفسه، غاية بحد ذاتها، ساعياً إلى استحكام صوته وتأصيل ( شخصيته) بتجريب فنون كتابية مختلفة وتداولها والخلط بينها. هناك مزيج متداخل من المعرفة والتأمل والحدث اليومي العادي والفلسفة والموروث. القصيدة تنزع ثوب الخطاب المباشر السمج إلى مساحات الأسئلة الملتبسة، هذه الأسئلة ليست اغتراباً عن الواقع بقدر ما هي كرسي محاكمة لمكونات النفس البشرية ومسائلتها على ما آل إليه الواقع من دمار، هو نموذج غير معتاد على شعريتنا التي اعتادت على قلب الهزائم الكبيرة انجازات وهمية خالدة.
الجيل يحتاج إلى فتح مصاريع التجريب الواعي الذي يجب أن يتلائم مع لحظة الانفجار الكبرى (2003). يحتاج إلى بعض الجرأة والمغامرة والكثير من الجهد للفكاك من السقوط في مطب حداثة مفتعلة أو استنساخ تجارب ( داخلية أو إقليمية) وان يجتاز المأساة بوقعها الآني إخلاصاً الى ان تكون كلمة الشعر صافية بعيدة عن انفعال اللحظة الشاردة.

لا يمكن لهوية الشعر ان تكون كاملة ونهائية. الشعر رحلة مفتوحة إلى المجهول، إلى الكشف الدائم عن مناطق كتابية ممكنة. إضافة لذلك، ان تجارب هذا الجيل لم تكتمل وتتخذ مشاريعها النهائية بعد، لذا من الصعب تحديد ملامح هوية القصيدة الآن. نحتاج إلى الابتعاد بمسافة زمنية كافية ستتكفل بالإجابة. يبقى الموضوع برمته بحاجة لدراسة أعمق. لكني مطمئن ان مدرسة شعرية عراقية تتكون وتحتاج إلى جهد نقدي يواكبها.


علي محمود خضيّر

كتب جواباً على تحقيق صحفي اجراه الكاتب علي عبد السادة في جريدة المدى بخصوص قصيدة ما بعد 2003.

لتجميل العدد:
http://www.almadapaper.net/sub/01-1706/17.pdf

حضور صارخ الغياب

علي محمود خضير


هل نملك أجساداً؟ وكيف يمكننا الاستدلال على وجودها، بالمعنى الفاعل، وهل تنطبق علينا عبارة مارسيل الشهيرة: انا جسدي.

هل نعيش خارج أجسادنا أم ان أجسادنا حُكمت بالنفي مذ تعرفنا عليها؟ إن كنا قد عرفناها فعلاً.

يرتبط مفهوم الجسد عندنا على الغالب الشائع بفكرة الإثم ولا تكاد تمر كلمة جسد أو تتردد في قناة تـَلقي ( نصيّة أم صوتية أم فيديوية ) إلا وكرست مفهوماً معكوساً عن رغبة عارمة بالقمع والنفي والإنكار تبعاً لارتباطات اثمية ساهمت بمداها الشمولي عند البعض على إلغاء الجسد من الحياة وكأن الإنسان في عالم أرواح .

الجسد منسيّ وغائب ومهمش، وربما تكون لعاقبته الفانية دوراً في إشاعة مبدأ قمع الجسد، فالخلود محصور بالروح والبقاء مكتوب لها لذا استقطبت القداسة ورمت بالتالي الجسد بنظرية الدونيّة.

والجسد يبدو كعدو ينبغي لنا اخضاعه ، ومحاربته كي ينصاع َ للاعراف الاجتماعية السائدة ، الجسد عندنا الة ووعاء يجب ان يتبع العقل ( الرأس ) والباقي يهمل ويُنسى فينشء عندنا الفرد مزدوجاً ومنشطراً بين عقلٍ خاضع ٍ للعقل الجمعي فكرياً وجسد خاضع للعقل المُقَيد/المُقِــيد.

نحن لا نستطيع اكتشاف اجسادنا من دون اكتشاف الآخر ( جسداً ) ، نحن لا نعرف اجسادنا ان كنا لا نعرف الاّ اجسادنا.

وتبدو خصوصية الجسد العراقي وسط هذه العاصفة أكثر تعبيراً عن حجم الفجوة الإنسانية التي يتجرعها والغصة المريرة التي تعصره فقد استحال جسد العراقي وعلى مدى طويل من السنين الغابرة وحتى اللحظة الى ساحة تنفيذ الخلاصات والحلول الأخيرة التي جاءت دائماً بالكوارث المدمرة، فجسد العراقي ( المحارِب ) يكابد فضاعات الحروب المجانية ويدفع من جسده ضريبتها التي تبدأ من شظايا واطلاقات تحيله الى عاهة ثقيلة وتصل الى فقدان الجسد وإلغائه من الوجود كلياً بقتله في سوح الحرب او ساحات الاعدام لمن يحاول الافلات بجسده، وجسد العراقي ( الغير محار ِب/ المدني ) بكل تمثيلاته الاجتماعية يدفع ضريبة الاحتراب الداخلي وتصارع الطوائف وإهمال المؤسسة الخدمية واستهتار الفساد فتنتهك جسده وتحيله إلى ساحة تنفيذ لا أكثر، حتى صار العراقي بجسده مفهوماً مُوحِداً للعذابات الانسانية في العالم الان.

جسد العراقي اليوم ساحة مثالية لصراع القوى الدينية والسياسية والفكرية التي ترفع شعارات لا يبقى منها سوى هواء التصريحات المجانية.

ولاشكَ ان تناقضاً كبيراً حصل بين الجسد العراقي المكبوت والجسد المكتوب والمُدّوَن في الادب العراقي وقد يعود السبب الى المرجعيات النفسية النافية للجسد المترسخة في وعي ولا وعي الذات الكاتبة العراقية، هذا الغياب يجعل مشهد الثقافة العراقية منقوصاً بأنتظار رافد انساني مهم ما زال يرواح في مكانه.
لا يمكن ان يُقال الجسد الاّ حين نتخلص من عُقدنا المستديمة وامراضنا الموروثة ، والانصات العميق لاحاسيسنا وتقصيها والتصالح معها ، غيرُ ذلك سيبقى الجسد (بمفهوميه الحياتي المعاش والفني المُدّون) منفياً ومتروكاً على رف منسي في مكتبة اكلتها عفونة العقل المُقيد.

مخاوف اللندي وادبنا النسّوي

علي محمود خضير



تقول الكاتبة الروائية إليزابيل اللندي في أحد حواراتها: «عندما تموت أمي سأكتب رواية جنسية! »العبارة المدهشة لهذة الكاتبة الصريحة تفرض علينا تساؤلاً مهماً ، في مجتمعات سبقتنا في حرية الرأي والفكر : هل يعني ذلك أن كاتبة من قامة اللندي خائفة من ردّ فعل عنصر اجتماعي مؤثر كوالدتها مثلاً ؟ وإذا افترضنا وجود مثل هذة المفارقة ، فكيف الحال لكاتبة تعيش في مجتمعاتنا ؟ وهل سيكون أدب اللندي (أميناً) في نقل جميع تصوّرات وانفعالات وحاجات الذات الأنثوية التي تمثّلها وتتمّثلها في نصوصها ؟

وبالرغم من هذا التصريح الذي يقترب من الدعابة ، إلاّ أننا نلاحظ كم كانت هذه الكاتبة جريئة في طروحاتها الروائية فيما يخص استعمال الجنس في الرواية ، لكن هل الخوف والكبت، إزاء نظرة اجتماعية ثقافية صارمة مَن يفرضان على المرأة كتابة معينة وحدوداً ينبغي عدم التفكير في تجاوزها ، أو حتى الوصول إليها ؟

هذا الخوف - الكبت - لطالما عطّل دور المرأة في ريادة مفهوم ثقافي «نسويّ» خالص ينظر إلى المرأة كنقطة تشريع تنظيري ثقافي لا يبخسها حقوقها في تكوين النسيج الثقافي للمجتمعات . إذ في ظلّ ثقافةٍ أسّس لغتها ووضع شرائعها وبنى أحكامها ومعطياتها الرجل ، كيف يمكننا أن نحدّد ملامح الأدب النسويّ؟ كيف نعرّفه؟ هل كلّ ما في حوزتنا من أدب نسويّ يعبر عن هموم المرأة الشرقية بشكل حقيقي بعيداً عن مخاوف مسبقة كمخاوف اللندي ، وبعيداً عن الأنماط التي خلقتها عصور من الإهمال والأنا الذكورية القاسية؟

هل كلّ نص كتبته أنثى يمكننا أن نسمّيه أدباً نسوياً ؟ هل كلّ مقالة نقدية لظاهرة ثقافية ما تحمل توقيع سيدة هو نقد ثقافي نسويّ ؟

وإذا كانت النصوص الأولى للأدب ، وما بعدها والتي كوّنت الذاكرة الجمعية للنسيج الاجتماعي ، قد وُضِعت في ظلّ مجتمع ذكوريّ صرف ، يمسك الرجل فيه بصولجان التجربة الثقافية الإنسانية ، دافعاً انفعلاته وتصوّراته وأجواءه النفسية، بوعي ذكوري واضح... فألا يشكّل هذا التراكم الفكري، وعلى مدار القرون الغابرة، دليلاً على أن وعي ولاوعي الذات الكاتبة الأنثوية قد تكوّنا داخل نسيج ثقافي ذكوريّ، وبالتالي ليس في وسعنا الحكم بشكل نهائي على القضية، والوقوع على صوت أنثوي خالص لجهة اضطرار هذا الصوت إلى الاستعانة بموروث ثقافي من صنع الرجل؛ بكل تسلطه وإقصائيته.

لعلنا نستطيع فعل ذلك لو استطعنا التأمّل في أجوبة الأسئلة التالية ، بعد قراءة مجموعة نصوص لكاتبة أنثى:
هل ان صوت الراوي داخل النصّ ، ذكر أم أنثى؟،وطبيعه أدوار المرأة التي تلعبها في النصّ؟ وهل ثمة صورة نمطية للمرأة في النصّ؟ بالاضافة الى طبيعة شخصيات المرأة في النص، رئيسية أم ثانوية؟

لو وضعنا إجابات لهذه التساؤلات الأولية ، سنجد أن غالبية النصوص ربما تكون قد وقعت في فخّ تصوير المرأة بعدسة الثقافة الذكورية ، وبالتالي إسقاط كلّ الأحكام النمطية المسبقة عليها (عدم صلاحيتها للقيادة وتدبّر الشؤون ، حقيقة كبتها النسويّ ، مستواها الثقافي... وغير ذلك من هموم المرأة العربية في مجتمعاتنا(.

بالطبع، ثمة أصوات نسوية مهمة أدلت بدلوها خارج انساق ثقافة الرجل التسلّطية ، وعبّرت عن صميم مأساة المرأة - الإنسانة بكل ما لها من طبائع وغرائز وطموحات مصيرية في الوقت ذاته.
هي دعوة تأمّلية لكسر الصورة، ورفع الغبار لتأسيس مرجعيات خاصة لأدبنا النسويّ لعكس صورة حديثة للمرأة العصرية في عالم ذكوري، معقّد ومشتبك، تقول فيه ما تريد دون تردّد أو خوف من ردود مستهجنة أو غاضبة.

هوس التّعريف

علي محمود خضير


(1)
منذ أن أثبتت قصيدة النثر جدارتها في أن تكون شكلاً وخياراً شعرياً مضافاً إلى الأشكال السابقة وهي تحدث خلخلة في الوعي الشعري اختلف صداه باختلاف ذهنية التلقي للمثقف العربي، لكن، ومن جانب آخر كان لها دور أساسي في (إضاعة) مفهوم الشعر وتعريفه بعد ان أدخلت عليه مستحدثات مفتوحة في الشكل والبنية والأسلوب والتراكيب.

ويخطئ من يحاول إقناعنا ان للشعر تعريفاً واحداً أو ماهية محددة ودقيقة هذا وهم كبير ينتاب العديد من المشتغلين بالهم الشعري فتراهم يسرفون في الكلام والتنظير والشرح واضعين في اعتبارهم إرساء تعريف ناجح وأوحد للشعر (حسب اعتقادهم) وتنتهي اغلب محاولات هؤلاء إلى نتيجة مختصرة: لا شعر إلا ما اكتبه أنا!
هكذا وبلحظة واحدة يجعلنا أمام خيارين إما أن نكتب بمواصفات ما اشره أو التسليم بالتهمة الجاهزة السعيدة: انتم لستم شعراء!
هكذا أيضاً يكون الحوار الثقافي الفني عندنا غريباً للدرجة التي لا تسمح فيها بالرأي والرأي الآخر، لسنا مع الوسطية، إما أن تكون معي أو عليّ، انه فعل يليق بالمتطرفين ولا يمكننا أن نسلم انه منتج من عقل ثقافي واعٍ.
ليس بعيداً عني، ما أراه واسمعه من هياج الحرب الكلامية والجدالات الأسطورية بين متعصبي طوائف الشعر بأنواعه في كل تجمع أو أمسية أو مهرجان يجمعهم، هم أيضا مصابون بوهم التعريف الأوحد للشعر ولا يمكن إقناعهم ان الشعر أفق متشظ لا يمكننا جمعه في آنية معدنية والغلق عليه، لا يفوتني الذكر ان هذه الصراعات تتم بعيدا عن أفق النقد الثقافي الذي يفترض ان يتصدى له الشعراء بعد ان يئسنا من كسالى النقد.
يصدمني صديقي حين يقول انه بات حائراً في تمييز الشعر الجيّد وسط ركام القصائد المتشابهة، وكأنه فقد حساسية التذوق الشعري وسط اختناقات التعريفات الجاهزة.


(2)
يُخيل لي ان تذوق الشعر عندنا يأتي بصورة سطحية وبدون جهد ذهني بل بالاعتماد على سليقة صنعها وعي ولا وعي جاءا من قراءات طويلة أدمنها شعرنا العربي التليد في مناهج التعليم، هكذا يكون تلقي الشعر بناء على التعريف المخزن في داخلنا (تعريفنا الشخصي) ولا مجال إذن، لمن يخالفه، في النجاح في أن يكون شعراً على الأقل.هكذا يكون قمة ما يبغيه الكاتب أن يُعترف بما يكتب، انه شعر!
لا يمكن الاقتناع بأي حال ان ذائقة كُونت بإرث ثقافي ونفسي وبيئي وسياسي خاص فصاغت مفهومها الشعري واستقرت عليه يمكنها ان تكون وحدها الدالة على حقيقة الشعر المشعة، هذا إن اتفقنا أن للشعر حقيقة واحدة!


(3)
جهد اللهاث وراء استيراد تعاريف ووصفات جاهزة والاختباء خلفها ممكن ان يعوض بجهد آخر (حقيقي) لتعميق التجربة الشعرية الخاصة والاستحكام على صوتها المتفرد الذي سيكوّن بمرور الوقت وصقل التجربة ونضوجها حالته المتفردة وعالمه المميز عندها سيدع الشعر يتحدث عن نفسه ويخلق تنظيره، هذا هو شأن تجارب الشعر الإنسانية الناجحة التي صمدت عبر الأحقاب.


(4)
أن نؤمن ان للشعر ماهية وحيدة ثابتة معناها اننا نلغى عامل التطور الفني وهو احد ركائز جوهر الإبداع وإلا كيف جاء لنا الشعر ووصل إلى ما نحن عليه بعد ان كان يكتب ب(ماهية) امرئ القيس، وهل من المعقول ان شعر زهير بن أبي سلمى وأبي نواس والمتنبي والسياب يحمل صفات فنية واحدة تصلح ان تكوّن تعريفاً موحدا للشعر.
الشعر فن أصعب وابعد من (حشره) في جملة مصطلحات أفقية لا تحترم حرية الموهبة المجددة.
كذلك يمكننا القول ان كل تجربة شعرية (حقيقية) لها أن تصنع شعريتها دون ان تكرسها كمفهوم موحد للشعر إلا بما يتطلب من شروط الإبداع والرصانة الفنية.
دعونا نكتب بسلام وبإخلاص ومثابرة بعيداً عن حمى الكلام الجانبي المشوش، فما أكثر ما يكتب عن الشعر اليوم وما اقلّ الشعر اليوم.