عمر الجفال
عن ملحق ادب وثقافة: جريدة الصباح العراقية
قد يبدو صدور مجموعة علي محمود خضيّر الشعريّة، (الحالم يستيقظ) مؤخراً عن دار الغاوون، متأخراً بعض الشيء إذا ما قُورِن بِصدورِ مجاميعِ جيله الشعريّة، لكن من ناحية أخرى، قد يُعطي هذا التأخّر بعض الشيء ميزة لخضيّر. وهذا بالضبط ما اختلف فيهِ منذ ظهوره، إذ طالما كان متأنٍ في نشرِ نتاجه الشعري، الذي يعدّ قليلاً!.
تأخذ مجموعة (الحالم يستيقظ) طبقات متعدّدة في القراءة، فخضيّر يلعب في مساحة شاسعة، وهي مساحة لم يدركها الكثير من أبناء جيله. يترتّب نص خضيّر على قرائتين قد لا تبدوان متوازيتان لكنّهما تشكّلان العلامة الفارقة في شعره، إذ أنه ينهض بالجملة البسيطة المُدرَكة من قبل المتلقي البسيط، وتحمل هذه الجملة شفافيّة كبيرة في لحظة التماس مع القارئ، لكنها –الجملة- تحمل في الوقت ذاته، قناعاً مغايراً في النبش، حيث أنها تحمل من الرفض الكثير:
(كان الليل ثقيلاً كسرٍّ قديم
يُلّحُ بأسئلةٍ لا جواب عليها(
وهذا المقطع، حين يُأخَذ مُنفَرِداً لا يعبّر عن القصيدة ككل –وهذا ما سنتطرّق إليه-، لأن القصيدة ترصد حول شخص يدور في المنزل، ويكتشف أشياء جديدة كأنه لم يراها من قبل، ويعامل أشياءً أخرى بغاية السذاجة، هذا الشخص، يتأمل الخارج بعين ثاقبة باحثاً عن أصغر التفاصيل، ويتأمل الداخل بعينٍ فاحصة، حتى ينقلب إلى جوانيّته، ويبدأ بنبش الأشياء الغير مرئيّة، الأشياء الأكثر فلسفيّة؛ من هنا، ينطلق علي محمود خضيّر في كتابةِ قصيدته. أغلب نصوصه تأمليّة ولا تسير ضمن تيار اليوم السائد في الشعر العراقي. اليوم العراقي ينفلت من قصائدِ خضيّر، وتبدأ القصيدة في البحثِ عن المهمل. ومِنَ المهملِ، تتشكّل قصيدة متأنية تتراكم فيها الصورة والسرد الشعري المقتضب.
لا يمكن تحديد مرجعيّة شعرية لخضيّر، لكنه، يختلف بشكل أو بآخر، عن أبناء جيله من ناحية توتّر القصيدة وتصاعدها. الشعر لديه لا يحمل توتراً بقدر ما يحمل تأنياً وتأملاً في الحياة واليوم.
قصيدة خضيّر، نابضة بالحياة. إذ أنه يكتب الحياة، لكن الحياة ليست من "الخارج" وإنما من "الداخل"، من داخل شرفة المنزل أو شبّاكه:
(ومَنْ يَدري أن لبركانه آيات في الأزقّة الضيّقة
والبيوت الواطئة،
آيات لا مرتلين لها ولا منصتين)
قصائد (الحالم يستيقظ) خرجت من عزلة الشاعر. الشاعر الذي يفتّش عن الشعرِ أينما حلّ وذهب. وهذا النوع من الشعر التأملي، ينحاز إلى الذات، إذ لا يجد موضوعات كثيرة غير الهواجس الداخلية ليتحدّث عنها ضمن نسقٍ شعريٍّ. لكن خضيّر قلب الموازنة، وبدأ بتركيب القصيدة من الخارج إلى الداخل، وأثبتت العزلة هذه المرّة أنها ليست (ذاتية)، وإنما خاضعة للآخر وللمهملات من الأشياء.
القصيدة، القصة، المسرح
منذ بداياته، كان يهتم علي محمود خضيّر، بخلق قصّة داخل القصيدة. وهذه القصّة على الرغم من أنها مموّهة، لكنها تستجلب نفسها وتفرضها داخل إطار القصيدة، قد تفتح بابها على الغموض أحياناً، وأحايين أُخرى تشرّع باب التأويل. هذه المزاوجة، بين الحكاية القصصية وبين القصيدة، دارت في أغلب مجموعة (الحالم يستيقظ) الشعرية، ولا تجد هذه المزاوجة في القصيدة القصيرة فحسب، بل أنها تمتد إلى القصائد الطويلة –نسبياً-.
علي محمود خضيّر حائك، وصانع ماهر، فهو، ينشغل بالقصيدة، والقصيدة عنده تأخذ ما تشاء من وقتها حتى تصبح ناضجة وجاهزة للتلقي.
وبالإضافة إلى القصّة، هناك حسّاً مسرحيّاً عالياً في قصيدة خضيّر، يظهر التصاعد الكبير –للإيقاع الشعري- من أوّلِ مفردة حتى آخرها، تمثل نهاية قصيدة خضيّر ذروة مشابهة للذروة المسرحية التي تنتهي معها الحكاية وتفتح مدينة التأويل أمام العقل ليدخل فيها.
في قصيدة (خيار خاسر) يبدأ الأمر هكذا:
(حدثتك مرّة
كل ليلة تصلح أن تكون الأخيرة وكل نهار يحمل بقلبه بذرة العدم).
وتنتهي بهذا الشكل:
(أقوال كثيرة وأحاديث
أحاديث ما كان لها أن تنتهي
طالما عذّبت المَلكَين وهما يعدّان رسائل الليلِ والنهارِ التي أدرت لها
ظهري
تعبا،
وتركاني هائماً في دروب لا تستحي
فهل سترحلُ أنت أيضاً؟
-...)
هذه –الذروة- التي انتهت اليها القصيدة، مشابهة جدّاً لمسرح العبث، لكنها شعرّية بقدر تداخل النص الشعري بالأجناس الأدبيّة الأخرى، وهذا بالضبط ما نظّر إليه الشعراء للوصول إلى "النص المفتوح" الذي يتسم "بالسرد" حتى يستوعب الأجناس الأدبيّة المتعدّدة. لكن في قصائد (الحالم يستيقظ)، اللغة اقتصادية –إذا جاز التعبير- والنص لا يمتلأ كلاماً، إنه مقتصد على القصيدةِ التي تحاول جاهدة أن تكون مثالاً مكتملاً عن الإيجاز الشعري في مرحلة التطوّر العصري الهائل الذي لا يتيح للقارئ كمّاً وقتيّاً لتأويلِ قصيدة طويلة تتداخل فيها أصوات وأحداث كثيرة.
نفي الذات
ذات الشاعر في (الحالم يستيقظ)، تبدأ من العنوان، فمنذ لحظة الاستيقاظ تكون ذات الشاعر قد "تشظّت" والتبست الجميع، على الرغم من أنها تعود إلى ذاتها عبر مرويّة الراوي الذي يتحدّث عن الشاعر وليس العكس. الشاعر هنا ليس راوياً بل مرويّاً. العنوان ذاته، يفتح دلالة على أن الحالم -الذي يأخذ بُعدَاً جمالياً- يستيقظ، واستيقاظ الحالم هو بمثابة صدمة تلقاها، هذه الصّدمة مثلت الحياة المتقلّبة، من هنا بالذات، تبدأ مرحلة النفي، وكأن الشاعر أيقظ الحالم ولم يستيقظ، لن يستوعب الشاعر "الاستفاقة" فجعل نفسه مَرويَّاً ليبقى في حلمهِ الطويل:
"أيُّ معنى من انتظار موت قادم لا محالة.
من اكتشاف أن يدك لا تُعينك على كتابة سطرٍ واحدٍ.
أو، من اشتياقٍ لا يُفضي إلا لوخزةٍ باردة أيسر صدرك".
وأعتقدُ أن ما سيمثل المرحلة القادمة من شعر علي محمود خضيّر، شعراً يقترب إلى المثاليّة في بناء المكان والحياة، الشعر الحالم بمثاليّة الكون والوجود، الشعر الزاخر بالحبِّ والتفاصيل الجميلة بَدلاً عن الخوف الذي يحيط العزلة والداخل والخارج وحتى جوانيّة المرء.
غزل خالٍ من الحرب
لقد أخذت الحروب المتوالية على العراق، تلتهم الجمال، حتى في الشعر أثبتت الحرب وجودها بجدارة، يكاد من النوادرِ، أن نجد شعر "حبٍّ عراقيٍّ" خالٍ من آثارِ الحرب. وهذا بالطبع ما يفرضه الواقع العراقي، لكن التملّص منه يعيق الحساسيّة الشعريّة عند الكثير من الشعراء، لذلك كان على الشاعر أن يخلق من كم الخراب الهائل نصوصاً شعريّةً جماليّة تنبذ الحرب.
عند علي محمود خضيّر، الأمر أخذ منحى آخر. ليس هناك سوى المحبِّ والأشياء المحيطة. الحرب غائبة، لكن الرفض متواجد بشدّة. هناك رفض يتوالد في قصيدة الحبِّ في (الحالم يستيقظ) ينبذ التعصب في المجتمع العراقي، وينبذ التقاليد السائدة:
(ستكلمينني عن أقراطكِ، عن الأب الصارم).
أو:
(وليس كأيّة امرأة، كانت تُجيد القول:
- الأمنيةُ.. عذابُ الروح.
- الألمُ أخرسُ ولا يحُسن النطق.
كنتُ أُدوِّن ما تهمسُ...، تدوينَ ملاكٍ يُصارعُ جحيمَه الخاصّة،
مثقلاً بذنوبِ غفلتِه، كنتُ أرقبُها تنوءُ بجرحها القديم، مخُفيةً -ما
استطاعت- حبَّاتٍ من دمعها الأسود، ينزلُ سريعاً، فتخذلُها المناديل).
إن الجيل الشعري العراقي الجديد -علي محمود خضيّر من البارزين فيه- يثبت تنوّعاً شعريّاً احتاجته الشعريّة العراقية في المرحلة الراهنة، ويمثل هذا التنوّع الفراغ الشعري الذي ولّدته الأجيال العراقية السابقة عِبر كتابتها لقصيدة تقترب في البناء والتصوّر -على الرغم من فردية الشاعر.
(الحالم يستيقظ)، باكورة خضيّر الشعريّة، ابتعدت عن الكثير من الانزلاقات التي تقع فيها الكتب الشعريّة التي تتسم بالقصيدة اليومية، وهذا ما يعطي للشاعر الحقّ بتأنيه في طباعة مجموعته الشعريّة الأولى.