الأحد، مايو 19، 2013

براءة الذات إزاء مرآة الآخر..الحالم يستيقظ لعلي محمود خضير




أثير محسن الهاشمي

جريدة المدى العراقيّة

يُنتج  الشعر دائما عن ذات الشاعر، وما تحمله من ثقافة وهموم وهواجس، فالشعر كما  يعبّر هلدرن (أكثـر المشاغل براءة)، فهو، أي الشعر، منبع براءة الذات  الشاعرة والمعبرة عن مكبوتات الإنسان وما يحمله من هموم وتساؤل دائم.


يقول نوفالس ان الشعر ((نقل للنفس أو للعالم الخارجي بكليته، حتى الألفاظ تثبت ذلك ؛ لأنها فيض من العالم الداخلي للنفس)).
في الحالم يستيقظ  للشاعر علي محمود خضير ثمة تعبير عن هموم جنوبه، وحلم لعشق أكثر طراوة وأمل:
كم حدّثتك بعدها عن أجنحتي التي لا تخفق
عن حقائق خذلتنا وإشاعات صادقة
 
عن ذكريات تـُطلق وحوشها على أيامنا العارية
... 
مللت الحكايا أفرشها مخافة أن تـُنسى
وأطلق أنفاسها لئلا تصدأ
مللت السبل نبذل فيها أعمارنا المحدّبة، ولا تعرفنا (ص 11)
يـُــلبس الشاعر عري الكلمات أثواب البلاغة اللغوية، التي ترتقي والأسلوب الحداثوي (أيامنا العارية / الحكايا أفرشها /  أعمارنا المحدبة(
تنطلق شعرية النص من الصور المندرجة ضمن إطار الكلمة البلاغية المعبرة، وبلاغة الكلمة القابلة للتأويل والإيحاء والرمز، كما في (عري الأيام، وفرش الحكايا، والعمر المحدّب):
كان الليل وقتها على أتمّ سواده والريح خلفك تنبح
البارحة عند اكتمال الأسى على حافة جرح نبيل يبدأ (ص16)
يستنهض الشاعر ارثه الشعري من لغة السياب (المطر، الريح،.).

هذا الهاجس القلق، والوصف المتغير، ينشأ أسئلة مختلفة لدى المتلقي، يسعى من خلالها لاحتواء المعنى بأكثر من دلالة:
غائم وجه الماء
للافتات السود
تاريخ آهل بالصمت
وللتوابيت عطش (ص 29)

يرغب الشاعر لأيام هادئة ملؤها الفرح والطمأنينة، على الرغم من تشاؤميته الواضحة في مقاطع من نصوصه الشعرية، فلا الماء ترمق ظمأ الاحياء  العطاشى، ولا العطش يوقف التوابيت المتزايدة أثر الحرب، فيستعير الشاعر لغة السماء للماء، صانعا وجها له (غائم وجه الماء)، وهذه صورة شعرية، يرسم عبرها الشاعر استعارة بلاغية، فيجعل للماء وجها، ويـأخذ صفة غيم السماء  ملامحا للماء، وبذلك تمتزج لغة التفاؤل (الماء / الحياة) بــلغة التشاؤم (الغيم / العتمة والظلام)، بالإضافة إلى المفردات المعبرة عن لغة تشاؤمية (اللافتات السود / تاريخ آهل بالصمت / للتوابيت عطش)
يهيمن الوصف في (الحالم يستيقظ) المقرن برغبة المعرفة،  وهيمنة السؤال، المستفهم نحو أجوبة لا بدّ منها، يضعها الشاعر لدى المتلقي:
هل أجعل أصابعي في أُذني،
كي لا أسمع نحيبها؟
كيف مرّت البارحة
بماذا فكّر رجال المارينز
قبل ان يقتحموا عليها الدار
ماذا سيقولون للرب ّ (ص31)

ان ما يميز نصوص علي محمود خضير، تلك الرغبة بمشاركة المتلقي باستفهامه، اذ  بات السؤال اليوم يشكل بؤرة مهمة لبلوغ اللغة الثقافية، لسدّ فراغ الذات القلقة، خاصة حينما يقترن السؤال بالتناص، فحجم المعرفة يزداد بانغلاق حجم المباشرة اللغوية، إذ يتناص الشاعر مع الآية القرآنية الكريمة:
"يَجْعلون أصَابعهم في أذانهم من الصواعقِ حذر الموت والله محيط بالكافرين"
فيتغير جعل الأصابع من أصابع جماعية كي لا يسمعوا صوت الصواعق، إلى إصبع ذاتي كي لا يسمع النحيب، وبذلك تهيمن الذات بوصفها ردّ فعل لشخصية الشاعر نفسه وسط زحام الأشياء:
المطر يبكي
يغسل دم الضحايا
العالق في هوائنا (ص 48)

إن الصورة الاستعارية لـ (المطر يبكي)، تستدعي التأمل، بمحاكاة المطر والشتاء على حدّ سواء، بكاء المطر يعني الرغبة بالهطول، ومعنى المطر الأسمى يتجلى بالحياة، مع ارتباط آخر بصورة شعرية أخرى (العالق بهوائنا)، فتتكاثف الصور البلاغية، لتعلق في ذهن القارئ، فيشدو الكلام غير مباشر، يضفي معناه إلى شفرات رمزية واسئلة تخضع إلى إجابات المتلقي تارة، وتارة أخرى يضع الأجوبة لدى المتلقي من دون سؤال:
النهر
دمعة تجري على خدّ الأرض (ص 49)

 
تتجلى رغبة السؤال في ماهية الذات المتأملة للأشياء، والنهر واحد من الاشياء التي تهيمن على الأرض، والشاعر يحوّل صورة النهر وجريانه، باستعارة بلاغية، يشكّل من خلالها لوحة فنية استعارية، عندما يجعل الأرض جسد أنثى، والنهر دمعة تجري على خد تلك الأنثى، وبذلك يحوّل لغة التفاؤل والحياة (النهر / الحياة،، الأرض / الخصب والنماء) الى تشاؤم قد يكون مرغوبا فيه (النهر / دمعة،، تجري على خد الأرض).

ان لغة الشاعر تنطلق من ذاته، وما تكرّسه تلك الذات من رغبة بالبوح على أقل احتمال، بوح بما تتأمله ذات الشاعر، سواء انها اعترفت بخسارات الماضي، او انها تنبهت بما سيحدث:
أتأمل الساعة قاسية، لا تنتظر
أتأمل نفسي وانا أتامل (ص 57)

ان قسوة الوقت لدى علي محمود خضيّر تتمحور ضمن مدلولات الحياة وقياساتها، رؤية تندرج على ثنائيات متناقضة، كالهدم والبناء، الوصول من عدمه، الفوز او الخسارة، الانتهاء في آخر المطاف، نحو الذات المتأملة القلقة.. الذات التي ترغب بان لا ترى الحياة متوقفة
.


ليست هناك تعليقات: