جاسم عاصي
في كتابة الشعر واستمراره زمنياً، يتشكل نوع من النمط أو النسق الذي يستمد قوامه من نوع الخطاب، وعمق تواصله وتماسّه مع حراك الواقع، بما يؤهل البنية الفكرية من اتخاذ الإجراء بهذا المستوى أو ذاك. فالشعر شديد الاتصال وبناء العلاقة مع الفنون والأجناس الأخرى، بل هو مرآة يمكن أن يرى المتلقي خلال صفحاتها أوجها تحكمها رؤى ومعرفة صاعدة. بمعنى يرافق الوعي العام الوعي الشعري، وهي خاصية ذاتية تقود إلى ما أكدنا عليه في بلورة الصوت الشعري. فالشاعر وهو يؤسس لعمارته؛ يعمل على أن يؤثثها بما يستلزم فنه حصراً، وبما يؤهله لبلورة صوته الشعري. فالعلاقة التي تسبغ ظلالها على الخطاب الشعري، تواصل النمو داخل الشعر وليس خارجه، وضمن مؤسسته الدائمة الحركة والصاعدة. وهذا يرجع إلى طبيعة الشاعر نفسه في ما يخص وعيه بضرورة التوّفر على تواصل مع الثقافة والوعي المعرفي، الذي يدفع صور الأشياء باتجاهات متعددة، تتركز في رؤى شعرية يجمعها مستوى غني وواسع من الوعي، مع تعدد في العوالم التي جميعها وإن اقتربت أو ابتعدت عن حركة مركزها، فبالنتيجة يتخلق عبرها النمط، أو الصيغة الشعرية التي تميّز شخصية الشاعر الفنية والرؤيوية.
فحسب بودريار في كسر الحدود ما بين الفلسفة والأدب والنظرية الاجتماعية ووسائل الاتصال، من أجل فتح اللغز التكنولوجي والتعامل مع هذا النظر تعاملاً مفتوحاً، يؤدي بالنتيجة إلى صورة لصالح الشعر. فالمنهج هو توظيف قوّة الأشكال توظيفاً فنياً (النقد الثقافي/ عبد الله الغذامي/ 2001). من هذا النمط من رؤى الشعر وسياقه ووظائفه، نجد في شعرعلي محمود خضيّر اتساعا في الرؤى، التي تنشغل في خطابات تقترب، بل تتمرس ضمن الرؤى الصاعدة، إذ نرى أن عوالم شعره تفوق عمره الشعري (الشبابي). وهذا، كما نرى، راجع إلى أنه واكب كتابة الشعر وفق معطيات ثقافية متعدد التوجهات، ما خلق لديه مركزاً يفوق مستوى عمره، كالخوض في فلسفة العلاقة مع الأشياء والظواهر، وطرح الأسئلة المستعصية عن الجواب، وفك لغز تبني الشعر لرؤى الفلسفة، وعلم الاجتماع، والسسيولوجيا، دون الإخلال بالشعرية. فهو بحق شاعر يتناول الظواهر عبر تعدد محاورها، ويعمل على توسيع الرؤى لما حوّله، وممارسة جدلية وجوده كإنسان ومثقف، إزاء واقع شديد التناقضات. لذا نجده بالشعر وحده يمارس نقد الواقع، لا بمعنى الانتقاد الموصول بالاحتجاج، بل إنه يحتج على الصيغة التي يراها مربكة للوجود الإنساني، وأمر ممارسة كشف مستوياتها شعرياً تطلبت منه الاقتصاد في العبارة على حد قول النفّري ورؤيته الفلسفية. فالشعر دون الفلسفة يبقى أسير بنيات محدودة، وهذا لا يعني أيضاً أن الشعر أو سواه ممن يمارسون في الشعر على استعمالات ثقافية متصاعدة، موحدين نظرتهم للشعر والظاهرة بقالب واحد، وإنما بطاقة من رؤى متجددة، تُمارس فعل الجدال مع مفردات الحياة والوجود، كذلك مع بنيات الشعر وروافده ومحصلاته.
نجد في خطابات الشاعر اجتماع العديد من الصفات التي يتوجب وجودها في خالق النص، أهمها، الموّهبة، المعرفة، اتساع الرؤى، شفافية العبارة، لذا فقصائده طويلة نسبياً، لكنها لم تتخذ مثل هذه الصيغة خالقة ترهلاً في العبارات الشعرية، ونعني هنا الزائد في التعبير، ما يسبب إرباكاً لتركيز الصيّغ الشعرية المحكومة برؤى متعددة الاتجاهات والرؤى، كما ذكرنا. فالشاعر إنما يخوض في الأشياء بكهولة تفوق عمره، وتؤدي بطبيعة الحال إلى تشكيل مبنى الحكمة في الشعر، بسبب العلاقات الجارية بين قوله الشعري والإحساس بالموجودات، وارتباك الواقع، ما يولّد في شعره نوعاً من ورود ما لم يُحتملْ أو يتوقع. ونرى في هذا خضوع لجينات معرفية. إنه يتقدم بإرادة نحو استقبال كهولته الشعرية، المحكومة بمجموعة اعتبارات دافعة للشعر كي يتبوأ مكانة خطابه، ومن أهمها الرؤى الفلسفية والأنثروبولوجيا. من الخواص التي نجدها مرتكزات شعرية الشاعر هي:
ـ كوّن القصائد طويلة نسبياً.. أي أن نَفَسهُ الشعري المحكوم بالرؤى، يوّلد تداعيات شعرية مركبة التعبير والأسلوب، فجملته الشعرية موّلدة، تبتعد عن وجودها النمطي في مسار القصيدة، مرتكزة على مجالها الحيوي في خلق تماسّ شعري نام.
ـ طول القصائد خلق مبنى بانورامياً يتمركز فيه نوع من التعرية الذاتية، قصد التعرية الكلية للوجود، فهو يطرق باب الأسئلة، دون تهويل في العبارة الشعرية.
ـ يستند إلى الموهبة، الحِرفة، اتساع الرؤى، شفافية العبارة. كما يرشح الشعر معادلة لا تنفك تُلازم القصائد في ديوانه «الحالم يستيقظ» فشعره حاصل تحصيل لمجموعة خوّاص.
ـ يخضع شعره إلى تأثيرات متنوعة، وهي في جملتها معرفية، تعمل على توسيع رؤيته للأشياء، ومعرفته لجدلية الوجود الإنساني.
ـ الخوض في تجارب تفوق تشكله الشبابي كما ذكرنا ـ وهذا يتماثل مع الضاغط النفسي من جهة، والتأثير المعرفي من جهة أخرى.
العتبات.. الإشارات المؤَكدة
الحالم يستيقظ ؛ ثريا تُثير نوعاً من المفارقة، ليس في كوّنها تنطوي على شفافية الحلم وطبيعة الاستيقاظ، فالبلاغة في العنوان متأتية من القطع بين الشفافية والمثول. ونعني بذلك أن العنوان لو كان (النائم يستيقظ) مثلاً لهان الأمر خلال إعطاء فعل الاستيقاظ موّقعه المعتاد، لكن العنوان كان على غير هذا تماماً، فالاستيقاظ ارتبط بكينونة الحلم، أي الشفافية لليوتيبيا التي خلقها الحلم. وأمر قطعه بمثابة إجراء قسري عمل على كسر الشفافية التي أنتجها فعل الحلم، الذي حوّل المرء الحالم إلى عالم فيه لذة متماهية أبعدته عن واقعه كتعويض عن الإحباط في الواقع، لاسيّما ارتباط العنوان بقاعدة لونية هي مزيج في إشعاع وتركيز على يوتيبيا الوجود، كما أنه ارتبط مع أنقى الفنون وهي الموسيقى، العازفة أُنثى، وأُنثى من المخلوقات المتخيلة في الأساطير والحكايات الموروثة، لها جناحان تطير بهما، أي تنتقل وفق اشتراطات الحلم للبقاء ضمن حيّز الحالم، ولا تُبرحه سوى حصول مفاجئ، وهنا كان الاستيقاظ. فالعنوان هنا فيه شفافية وعرض لواقع يعمل بقسرية كسر أسس الوجود، ولعل كسر الحلم واحد من أهم مقتنيات الإنسان ضمن مخياله الذاتي.
أما ما احتواه الغلاف من الخلف، فقد احتوى مقتطعا من قصيدة، يحتوي على رؤى توجبها طبيعة البيئة الخالقة لأسئلة الشاعر في (أيكون النهر أقرب من أي يوم مضى؟) وهو سؤال خلقته حالة التماس، ضمن شعور الاقتراب من الأشياء، حيث الفعل ورد الفعل في (وتكون لي برودته كلها/ وأمنحه الرجفة). وهنا منطق البلاغة في أن الجزء يمنح الكل في (الرجفة). بعد ذلك ينساب المقطع واصفاً ومؤكداً على خصائص المشهد وما حول النهر. وهذا بحد ذاته يؤشر إلى علاقة الشاعر مع بيئة رعوية وزراعية، أي أنه بصدد إنتاج شعر البيئة وتفعيل أسئلتها الأزلية. إن رحلة الشاعر علي محمود خضيّر لم تكن شائكة، وإنما كانت تسير وفق نمو الشعر بتلقائية، فقد اختارت القصائد البساطة في التعبير والعمق في الدلالة. فلغته الشعرية لا تُضفي على الأشياء التهويل، بل السهل المنظور والدال الكاشف لما هو مضمر. وهي نوع من التجليات الصوفية التي تراعي العلاقة بالأشياء وحركة الزمن، قصد كشف تداولاته التي كثيراً ما تدفع صوت الشاعر في النص للنزوع إلى البحث عن الخلاص. وهنا تتحقق صورة الخلاص بالشعر وحده. فشعرية قصائده كامنة في بساطة جملته الشعرية، فهو شاعر ذي نزوع يومي كما هو (سعدي يوسف، مصطفى عبد الله، حسين عبد اللطيف) لكنه يحاول التخلص من هيمنة الآخر الشعرية في البحث عن شعرية قصائده، وتأسيس صوّته الذاتي الذي سيميّزه شعرياً في قابل الأيام.
القدس العربي
30 - يونيو - 2021