الثلاثاء، فبراير 19، 2013

وهي تتحول إلى ملاك


                          
                                  إلى عبير


كما تحلُّ العتمةُ فجأةً
هبطَ مطرُ آذار
...

في الخارج
الحديقةُ تسهرُ بأشجارِ تينٍ راجفة.

هل أجعلُ أصابعي في أذني،
كي لا أسمعَ نحيبَها؟
كيفَ مرَّت البارحة؟
بماذا فكرَ رجالُ المارينز
قبلَ أن يقتحموا عليها الدار
ماذا سيقولونَ للربِّ؟
...
ألم يكنِ البابُ موارباً؟

وماذا عن أنينِ أختٍ منتظرةٍ، وأبٍ يتعثرُ الرعبُ
على لسانهِِ ويموت؟
ماذا عن سعال أُمٍّ سقطَ النعاسُ من رأسها
وظلَّ واقفاً على الباب؟
ماذا عن أيديهم القويةِ وهي توثقُ يديكِ الطفلتينِ إلى الخلف
ليفعلوا ما يفعلون؟
ماذا عن الصِّبيةِ في الغرفةِ المجاورة
مكوَّرينَ عندَ الزاوية؟

ماذا عن الـGC؟
باردةٌ وسريعةٌ أكثر مما ينبغي.
كم عصفوراً أطاحت به من رؤوسهم المغمضة
كم من الأحلام؟
وكيفَ سَرَتْ نيرانٌ كثيفةٌ بأضلاعِ البيتِ
وتنفسَ الفجرُ دخاناً ثقيلاً يتصاعدُ ببطءٍ من جلودكم؟
...

الرويشد*



أيكونُ النهرُ أقربَ من أيِّ يومٍ مضى؟
وتكونُ لي برودتُهُ كُلُّها
وأمنحُهُ الرجفةَ.

النهرُ البنيّ
يشفُّ عند أقدامِ النسوةِ المعتمَّاتِ بالمَلملِ الخشن
يتركُ للجرفِ محاراتٍ هادئةَ اللون
وأكداسَ طينٍ حرّي يجفّ
وبينما (الزيزُ) يشكو ويعتاش
تغفو الطحالبُ الخجولةُ بين شقوقِ المشاحيف.
...
..

خضراءُ خضراء
عيونُ الرويشديات
وطويلةٌ هي النهاراتُ هنا
لكلابِهم ماؤها
وما يكفيها من النباح
وللطينِ السيادةُ والخلودُ

الفلاّحُ المدخِّنُ
يرمقُ صغارَهُ بالرضا
أولئك،
أخلاء الطين
بشعورهِم الشقراء المشعثة
وجلودِهم العارية.

...
طويلةٌ النهارات
خضراءُ عيونُ المارة.



*الرويشد: قرية تقع على ضفاف دجلة في قضاء "علي الغربي".


رسالة ستضلُّ عنوانَها أيضاً..




( 1 )

أتذكَّرُ الآنَ بلحظةٍ شاردةٍ هبطتْ عليَّ فجأة، أتذكَّرُ وجهَها المتبتلَّ ورائحةَ عناقِنا الأخير، صبرَها على تأخُّري الدائمِ في إيفاءِ العهود، تلكَ التي تصّبُّ الحياةَ مركزةً في فمي، بعدَ أن تصفّيها شيئاً فشيئاً عبرَ قلبِها المرتعشِ بحيرته. راسمةً -مهما حدث- ابتسامةَ قدّيس.

 ( 2 )

أتذكَّرُ أَني سألتُها مرّة، إن كنّا سنصل! كان السؤالُ يتيهُ مرتبكاً بين لفحاتِ هواءٍ رطب يبللُّ أرضَ الغرفةِ والجدرانَ السميكة، كان السؤالُ ثقيلاً بالمرّة، وكانت تتجاهلهُ بما لها من عينَيْ طفلٍ ورائحةِ ملاك، مشغولةً بستائرِ النافذةِ وترتيبِ قطعِ الأثاثِ القديم. كانتِ الأشياءُ حولَنا تتماوجُ بين حضورٍ وغياب. رزمةُ الكتب، أشرطةُ الدواء، كوبُ القهوةِ البائتُ وبضعةُ أوراقٍ نقديةٍ تالفة. وحدَها كانتْ تمنحُ الأشياءَ لونَها ومعناها العتيق. وتُبدِّدُ عبثَ الوقتِ وبلاهتِه.
رغمَ ذلك، لم نَحظَ بإجابة قط.

( 3 ) 

وكورقةٍ خضراءَ في حديقةٍ، قريبةٍ، وبعيدةٍ كسحابة.
صرتُ مجذافاً كلّما صارتْ زورقاً، وشارعاً كلما ازدحمتْ بالآخرين.
وليس كأيّة امرأة، كانت تجيد القول:
- الأمنيةُ.. عذابُ الروح.
- الألَمُ أخرسُ ولا يحُسِنُ النطق.
كنتُ أُدوِّنُ ما تهمسُ... ، تدوينَ ملاكٍ يُصارعُ جَحيمَهُ الخاصّ، مثقلاً بذنوبِ غفلتِهِ، كنتُ أرقبُها تنوءُ بجرحها القديم، مخُفيةً -ما استطاعت- حبّاتٍ من دمعها الأسود، ينزلُ سريعاً، فتخذلُها المناديل.لم أخبرها أنها المرّة الأخيرة التي ستراني فيها، ما تجرأتُ أن أطعنَها برحيلي إلا وأنا محتدمٌ فيه.

 ( 4 )

تركتُ عند بريدها الإلكتروني رسالةً أخيرة:
"لكِ أن تعيشي كما ترغبينْ
...
ولي أن أحلمْ"

كانت رسالةً ضائعة، مثل التي أكتبها الآن.

افتراضات

فاختات تطردُ النحس




بلا يأس ٍ
تُخطِّط الفاختاتُ السماءَ الكئيبةَ
وتمضي،
تمنحُ الريحَ أسرارَها
وتتركُ الريشَ للنوافذ
وللفجرِ هديلَها المتصل

من دون أن تدري
تصنعُ للصبيِّ ذاكرةً
للأعشاشِ دفئَها
للبهجةِ.. أن تكون.

هذه الأسرابُ المتناثرة
على شُرَفِ الصبايا النواعس
على نوافذِ المسعولينَ
وأبوابِ الأولياءِ
والقِبابِ المذهبّةِ العالية
لم تزلْ تُرتِّقُ أحلامَنا المشروخَة بالخيبة

وكما يرجعُ أَبٌ  في مسائهِ خائباً
كما يغافلُ صِبيةٌ أحلامَهُمْ بأخطاء مبتورة
تغيبُ الفواخت في العاصفة

وعندما تشحبُ أيامُنا صبيةً كادحين
تفركُ نعاسَ الزقاقِ بخفقِها
تُبارِكُ الفجرَ لهم
والطعام.

لها ودُّنا
لا يُنقصُهُ دمعُ الراحلينَ دونَ سبب.

فَرَاشٌ يأتي




باللمساتِ النديةِ سنوقظُهم
بصوتٍ تُبلِّلُهُ الرحمة
ووجهٍ تغارُ منه الملائكة.
سنشتري لهم الحلوى
والكثيرَ من اللُّعَبِ المدهشة.
لن يضطروا إلى انتظار العيد
كي يركبوا الهواءَ ويصافحوا المدى بأراجيحهم
وستسعدُ بهم غرفتُنا الوحيدة
ومصباحُها الخافت.

ما شاؤوا من سهرٍ سنمنحُهم
وما شاؤوا من اخضرارِ السنين.
سَنَدسُّ في وسائدِهم الآس
كي يكبروا كالفَرَاشِ المتوَّج
لا معاطفَ لأكتافهم سوى القبلات
ولا أسرّةَ غير أحضاننا المُجهدة

ستكون لهم شمائلُ الجنوب
رائحةُ الطيب،
وثوبُ العافية
سيملؤون كراريسَهم بالياسمين
لا مدافعَ ولا فوهاتِ بنادق


 لن تطأَهم الفجيعة
ولن تمسَّهم شمسُ الخسارات


لهم أسماؤنا
ولنا منهم، معنى أن نكون

آه كم أحبهم،
أطفالنا الذين سيأتون...

ما يتركه المارّة، مسرعينَ




أتأملُ أُمّي تصنعُ خبزَها بتنّورِ فزعنا.
أتأملُ أبي، يُسنِدُ بيتَنا لئلا يشيخ.
أتأملُ ابنتي تثقلني وترفعُ عني
أتأملُ مروحةَ السقفِ ساكنةً منذ البارحة
أتأملُ يومي وهو يمرّ
أتأملُ الخديعةَ والخيانةَ والخسارة
أتأملُ الساعةَ قاسيةً، لا تنتظر.

أتأملُ نفسي وأنا أتأمل.

أوان




لا تملَّ أو تغضبْ أو تكتئب
لا وقتَ حتى لذلك،
وانظرْ إلى كلِّ ما يُلمَسُ حولك، تَشّربْ فيه جيداً
قبلَ أن يتلاشى
قبل أن يتحولَ/ تتحولَ إلى محضِ ذكرى.